قــــــبل بضعة أشهر عرض عليّ أحد الأصدقاء حضور دورة تدريبية في “التحرير الأدبي ومهارات الكتابة”، قال لي إنّ مدتها يومان!!، فقلت له: ما عسى أن يقول لنا شخصٌ “ما” عن الكتابة في يومين؟!
كنت أنظر للموضوع من زاوية تدريبية مهنيّة بحتة، فأنا كاتب تلفزيوني وسيناريست ومخرج للبرامج والأفلام، وأرى هذا التأهيل من الصعوبة بمكانٍ أن يتمَّ في يومين!
الكتابة في رأيي: موهبة في البداية، وخيال في الوسط، وخبرة ومعرفة متراكمةٌ في النهاية، وبين كل تلك التروس رغبة جامحةٌ وشغفٌ مهووس …
وهي مع ذلك لا بد لها أن تُدهن دوريّا بزيوت الصَّقل، وأن تُطَّور تقنيَّاتها باستمرار لتعطيها اللياقة والديناميكية المطلوبة، لكن بالفعل، ما عسى أيّ كاتب أن يقدِّم من مهارات تدريبية حقيقية لمجموعة من الهواة والمبتدئين ناهيك عن الكُتَّاب المحترفين !
لم يدفعني للحضور إلا أنني تذكرت حكمتي الأزلية (تعلّم باستمرار، وتواضع أمام كل معلومة بانبهار)، فالجهل أوَّله احتقار المعلومات البسيطة!
في المساء الأول للدورة، حضرتُ لأجد شخصاً هادئاً ودُودا ًفي زِيّ حجازي أنيق يعلوه الوقار، وكأنه شيخٌ حجازيٌ قذفت به حكايات الحجاز القديمة، لكنه كان يحمل روحاً شابة لا تكفُّ عن الحركة والتفاعل مع كل ما يقال…
زيَّن الرجل وجهه بالابتسام، وزاد شخصيته هيبةً بالإنصات لكل الموجودين بداية الأمسية، كان يقدّرهم مهما كانت تساؤلاتهم “شاطحة”، وقد أظهر اهتماماً فائقا لكل ما ادّعوه من معرفة قد لا تتعدى كتابة خاطرةً لم يقرأها أحدٌ سواهم!
بدأنا بروتوكول التعارف، فقال: أنا الشادي سعود الحركان… أكثركم لم يسمع بي، لا بأس إذن، ولكنني كاتب أنجبت ٤٣ كتاباً متنوعا حتى الآن، رحَّـالـة، و مُرَبٍّ أعشق التربية الإنسانية والوجدانية، ناقلٌ مُخلصً للمعرفة… وأضيف له -أنا- الآن بأنه روائيٌ، مفكّـر، فيلسوف، و ذو رؤية ناقدة… كما أنَّ خارطة تِرحاله تمتدُّ لأكثر من 90 بلداً حول العالم، وهذه لوحدها تكفي لتعطيه غزارة لا مُتناهية في ذكرياته وتجاربه ومعرفته البشرية والثقافية الممتدّة…
قلت في نفسي: جميلٌ هذا التعريف البسيط العميق المختزل…
أضاف بأنه ابن أول وزير للعدل في المملكة العربية السعودية.. أدركت مقدار اعتزازه بأبيه بلا كِبر ولا خُيلاء… قرأت فيما بعد أنه من مواليد مدينة جدّة عام 1961م.
ثم ماذا بعدُ أيها الشادي؟
ماذا بعدُ؟ هو السؤال الذي لم تكتمل إجابته حتى اليوم…
في سويعاتٍ سريعات من مسائين وليلتين متتاليتين، علّمني الشادي ما جئتُ مترددا بشأنه بداية الأمر.
قال كلاما، وقدّم وصايا تناسب محترفي الكتابة والمتخصصين، كما هي نصائح ومهارات تناسب الهواة والمبتدئين…
لقد حدَّثنا عن طرق جديدة، ونظَّف أمامنا طُرقاً مهجورة، ثم طرَق أبوابها وقال: هي أمامكم إن شئتم أن تدخلوها فادخلوها بسلام ٱمنين…
هذا الرحاّل بين الكلمات والنظريات والأحرف والتعابير الملتوية، والمدلولات الما-ورائية كان أغزرَ من أن تُختزل تجربته مع الكلمة في أسطر أو مقالات… ويكفي أنه فتح لنا أبوابه بعد اليومين، إذْ رحَّب بكل راغب للاستزادة أن يتواصل معه عبر وسائل التواصل ليستمر تدريبه والاعتناء بطلابه إلى ما بعد الاحتراف، وهذا لعمْري مالا يقوله إلا أعرق الأساتذة وأنبلُ المربِّين، بل اقترح علينا اللّحاق به أينما كان في دوراته المتحركة وفق مدرسته الجديدة القديمة (المشَّاؤون الجُدد).
أشهد أنه حالة خاصة ومزيج لغوي ثقافي إنساني مختلف “كوكتيل شهي”؛ يومها قرأ لنا أسطراً من روايته القادمة -حينها- والصادرة-الآن #رواية_وهم ، واقتطف لنا شيئا من سطورها؛ نظر بعضنا إلى وجوه بعض دون أن نفهم إلا أنها وهم !!
الحقيقة أنَّ #رواية_وهم -وهي بالمناسبة آخر المؤلفات من بنات الشادي سعود الحركان- رواية تناسب الذين لا يناسبونها ..!
بمعنى ٱخر : إن كنت رجلا مشغولاً، أو شخصاً ملولاً أو مريضاً نفسياً أو حتى ذكياً حدَّ الجنون ، فأنت معها ستتحول لشخص يعاني وطأة هذه الرواية الرشيقة والكاملة الدسم!!
نعم هي رشيقة بصفحاتها الأربع وأربعين بعد المائة، ذات الحجم المتوسط، ولكنك ستصاب بتُخْـمة شديدة الثقل، مما سينعكس على نشاطك الذهني الذي قد يتوقف فجأة من قوة الضخِّ القصصي العالي التقنيات، كجهاز لابتوب أو موبايل صغير توقف فجأة “علّـقَ “في غير وقته”.
ستحتاج إلى راحةٍ حدّ الهذيان، وتنفُّس إضافي حدَّ الحشرجة، وأنتَ أو أنتِ تُلقيانها قريبا منكما، ولكنكما ستجدان نفسيكما تجذبانها من جديد وأنتما تقولان: حسبي الله على هكذا قصة!
#رواية_وهم : هي رواية تجعل الحقيقة وهما، وتجسد الوهم حقيقة، توظّف السؤال إجابة، وتحوّر الإجابة تساؤلاً، تنسِف عرش الثابت، وتُثَبّت عجلة المتحرك، إنها شبكة معقّدة من المتقاطعات والمتضادات والمتعاكسات التي تجعلك تتُـوه في متاهة من نوع (أين المخرج ؟)
لم أكمل قراءة الرواية حتى لحظة كتابة هذا المقال، وما هذه الأسطر إلا إحدى تجلّيات فترات الاستراحة المعلّقة بين تُخمتين “تعليق ذهني حاد”.
سأواصل قراءة الرواية، وقد أستطيع وقد لا أستطيع…
أعترف بأن التحذير الذي ساقه #الشادي_الحركان “سعود” في بداية روايته، لم يزدني إلا تمادياً بدخول ذلك السرداب الغامض، والمليء بالوهم والصراع، وقرابين الأشخاص الذين ذُبحوا في معبد الشكِّ الغامض المختبئ خلف هياكل أجساد بشرية نراها أمامنا كل يوم، دون أن ندرك أنهم كائنات أتت من عوالم مجهولة شتّـى، ولم نتقبّل بعضنا إلا حين ارتدينا أزياء متقاربة، وحين تكلمنا بلغة منافقة، بينما نحن وَهْمٌ لحقائق غائبة تختبئ خلف أوهامٍ آمنـّا بها…
#رواية_وهم ، هي أحدث رواية سعودية وعربية، أتحفنا بها الشادي سعود الحركان، وهو بذاته ينصح في بدايتها بعدم قرائتها لمن يعانون من أمراض الفصام أو الذّهان أو ذوي العِـلَل النفسية العميقة، لكنني أختلف معه هنا، فربما كانت الرواية من نوع ( و داوني بالتي كانت هي الداء) !!
بقلم المخرج و السيناريست : محمد القاضي
This site is protected by wp-copyrightpro.com