مقال للدكتور عبد الرحمن نصار استاذ التفسير ووكيل مدرية الأوقاف بالإسكندرية
أُخذت كلمة الإشاعة من معانى الشيوع والذيوع والانتشار ،
وكذلك هى حقاً ،فى سرعتها وشدة دورانها على الأسماع ،
ومن عجب أن للإشاعة من الرواج والتصديق حتى ولو كانت كاذبة (وهى فى أغلبها على هذه الصفة )ما يدهش المحلل .
والإشاعة موجودة من قديم وبمستويات تتراوح بين القلة والكثرة ،
وتتوافر الإشاعات وتنتشر فى الظروف غير الطبيعية ،
سواء للأفراد أو الدول .
وكثيراً ما كانت الإشاعة سبباً فى قطيعة أو إشعال فتنة ،أو إيقاد نار لا تنطفئ .
والأمر المحير فى شأنها أن السامع عادة لا يمررها على عقله .
فيضع عقله فى حذائه ويترك للاشاعة كل التدبير والتسيير لحياته .
مع أن الإشاعة عادة تخرج عن حدود التعليل المنطقي .
………………
ويقع كثيرون فى هذا الشرك
من الغفلة وسوء التقدير والمنقلب.
وكثير من الأحداث التاريخية الكبرى ارتبط فى بدايته بإشاعة كاذبة أو مغرضة .
ولنأخذ مثلاً مما لا يمكن دفعه ورده ،من القرآن الكريم ،إذ ذكر لنا فى سورة النور نبأ يتعلق بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ،فيما يعرف بحادثة الإفك .
………..
وعقولنا إذا أجازت وقوع الإشاعة من أفراد لأغراض فى نفوسهم ،
فهى تجيز وقوعها كذلك من دول فى حق دول ،لأغراض سياسية وحربية واستعمارية ،كشائعة امتلاك العراق للنووى ،
وما بين تمرير الشائعة من فرد مستقل إلى مستوى دولة بحجم كبير ،فإن لك أن تتصور ما بين هذين المستويين من درجات تتواجد عليها الأشاعات .
…………….
وفى الإشاعة قدر من الدهاء لا ينكر ،وهى عادة ما تتناول فرداً ما بغرض الانتقاص منه أو التأثير عليه أو إثنائه عن قرار أو مسار .
وتلتقى أغراض الإشاعة غالباً على أبواب الأذى .
وبعض الإشاعات تنطلق تحت غطاء علمى ترويجاً لدواء أو تمريراً لفكرة وما شابه ذلك .
وهذا مما يعيب المعاهد العلمية أشد العيب إذ تلبس بعض التقارير العلمية ملابس زور للأغراض السابق ذكرها ،وهو الأمر الذى يهز ثقة الجماهير بالعلم والعلماء هزاً عنيفاً.
………………..
والعالم كله أفراداً وحكومات ودول يدرك تماماً خطورة الإشاعة وتأثيرها ،
وقد اصطلت مصر بنيران الإشاعات ناراً تلظى فى السنوات الأخيرة ،إلى الحد الذى ألجأ حكومتها لإنشاء مرصد لتتبع الإشاعات والرد عليها ،وقد بلغت هذه الإشاعات عدة آلاف إشاعة ،مما يعنى فى الإحصاء وعنده أن اليوم الواحد يشتمل ليس على إشاعة واحدة بل على عدد ،يتزايد ويتناقص فى اليوم الواحد بحسب ما يرتبط بموضوع الإشاعة نفسها .
وليس غريباً أن تترك الإشاعة أثراً لدى بعض الأنفس ،حتى ولو كان هذا الأثر مجرد تأجيل لتصديق الخبر الصادر عن الدولة .
……………..
وتروج بعض الأشاعات فى الميدان التجارى ،وإشاعة واحدة كفيلة متى اشتهرت بتغيير أسعار الأسهم والسندات فى البورصات المحلية والعالمية ،لدرجة أن بورصة مثل بورصة نيوريورك أو طوكيو أو وول ستريت مثلاً لو أصيبت بالزكام ،لتبعها العالم كله فى هذه الإصابة ،وربما بدرجة تؤدى لانهيار اقتصادى ضخم لبعض الاقتصاديات الكاملة ،وربما لانهيار جزئى يتعلق بشركة ،مثلما حدث لشركة انرون للطاقة ،وربما لانهيارات أخرى يستطيع الاقتصاديون شرحها وبسطها خيراً منا.
……….،
ومن طريف الإشاعات التى مرّت بى أو مررت أنا بها: أنى رأيت من حوالى ثلاثين سنة تقريباً واقعة تتعلق بمناديب شركة ملح .
(وللعلم فنحن الدولة رقم ١٦فى إنتاج الملح على مستوى العالم ،وهناك كتاب رائع عنوانه تاريخ الملح فى العالم ومؤلفه مارك كير لانسكى ،ترجمة أحمد مغربى ،ولا أدرى ما بينى وبين هذا الكتاب ،فهو فى مكتبتى منذ ما يزيد على عشر سنوات وكلما هممت بقراءته صرفنى عنه صارف ،لا أدرى سببه ).
ونعود لقصة المناديب:-
وملخلصها أنهم جاءوا يوماً لتاجر جملة بقريتنا العامرة بإذنه تعالى ،بسيارة تحمل أطناناً من الملح لتسويقها عنده فأخذها منهم ،(وكان كيس الملح يومئذ كيلو جرام وبرتقالي اللون وسعره للمستهلك عشرة قروش )، المهم ما كاد التاجر يفرغ من إنزال الحمولة من على السيارة ،حتى جاءت سيارة أخرى بحمولة مماثلة ، واعتذر التاجر للمناديب الجدد بأن السلعة متوافرة لديه ،وها هم يرونها بأعينهم ، فترجوه كثيراً أن يأخذها منهم ولقاء عروض عرضوها عليه ،فوافق تحت تأثير إلحاحهم ،لكنه اشترط عليهم ،أن يطوفوا بالقرية لشراء أكياس الملح من محلات التجزئة فإذا سئلوا وهم الأغراب عن القرية ،من أنتم ؟ولماذا تشترون هذه الكميات الكبيرة من الملح ؟ فإن عليكم أن تجيبوا بأن ملاحات المكس بالاسكندرية فيها مشكلة بإنتاج الملح ،وقد شحّ الملح بالاسكندرية وهو غير موجود وأسعاره سترتفع ولذا نحن هنا للشراء .
ووافقوا ونفذوا ،وباعت محلات التجزئة قدراً مما كان عندهم ،لكن بعض الباعة التفت إلى كثرة الطلب على الملح ،فأقل زبون يشترى عشرة كيلو جرام فصاعداً ،وهذا أمر مستغرب ،فتساءل عن السر فبلغته الإشاعة فامتنع عن البيع رجاء زيادة السعر ،وحدثت بينه وبين بعض الزبائن مشاحنات ،فهرع الناس إلى تاجر الجملة ،وحمولة السيارتين على الأرض أمام محله .
وقد أقنع الناس بأنه لمّا علم بأزمة الملح فى الإسكندرية اشترى هذه الكمية الوفيرة ،وليس يمنعه مانع من بيعها كلها لأهل بلدته وبالسعر المعروف لديهم ،ودون زيادة،
مما جعلنى أتذكر مشهداً من فيلم الزوجة الثانية ،وهم يخاطبون العمدة بقولهم :
يا سلام على حنيتك وإنسانيتك يا عمدة ؟
ويا سلام على خطتك وإشاعتك يا تاجر الجملة ؟
ولولا أن الملح من السلع التى تصل صلاحيتها لعامين دون أن يدركها الفساد ،لبارت كثير من الكميات التى اشتراها المتأثرون بالاشاعة والتى كانت محلية بحتة ،
إنشاء وابتكاراً وإنتاجاً وترويجاًوإقناعاً وإبداعاً فى الكذب ،
وتلك كانت لفرد فى قرية على أطراف الدلتا،
وهذه الإشاعة على حدودها الجغرافية الضيقة كانت محكمة ،ومبتكرة، على الرغم من حدودها المحلية المحدودة بزمانها وظرفها وسلعتها وأشخاصها وعدم امتداد تأثيرها لحدود وأشخاص وسلع أخرى،
وهنا يأتى التساؤل المثير :
كيف يكون تأثير الإشاعة إذن عندما تكون خارجة من مراكز متخصصة ذات أغراض وأهداف مختلفة ولا تشتمل على خير ؟
فانتبهوا يا أولى الألباب .
This site is protected by wp-copyrightpro.com