هل هى غربة الروح أم غربة الجسد ، أم كليهما معا!!، نعم انها الغربة التي واجهها كل إنسان من بداية خروجه خارج حدود وطنه، وتركه لأهله، وذكرياته، وبيته، وأصحابه، ومحيطه …. الوطن وما أدراك ما الوطن، هو اإنتماء، وليس كما يعرفه البعض بأنه تراب أو سماء أو هواء، فكل هذه الأمور أشياء مادية محسوسه والوطن أعظم من ذلك بكثير ، أعظم من هذه الماديات والمحسوسات.
من منا لم يكتو بنار حرقة بعده عن أهله وعن وطنه، من منا لم يذرف الدموع ، علها تخمد ببرودتها حرقة الاشتياق حينما يشتدان بأروقة القلب، أو تذيب بحرارتها صقيع الوحشة الموحشة وسط حشد كبير من الذكريات لملامح الوجوه وروائح الأمكنة.
سيواجه المغترب ومنذ اليوم الأول تجربة وإمتحان قاسي، مشاعر لا تترجم إلا عن طريق دموع تنهمر بسخاء، سيفاجأ بثمة كلمات تختنق بسماعه صوتاً يشبه أصوات أحبته، أو يرى ملامح تشبه هيئتهم أو وجوههم، فالمشاعر وآحدة عند المغتربين في أي مكان وقلائل جداً من المغتربين أختاروا غربتهم بمحض إرادتهم، بل هي فرضت عليهم، فالإنسان كتله من لحم ودم ، مشاعر وأحاسيس وعواطف يتأثر سلباً وايجاباً بمجريات حياته.
أنها تجربة الغربه المريرة وما لها من إنعكاسات وتأثيرات عميقه على الروح والجسد والفكر في نفسية الفرد، فالذين يسافرون يتغيرون، تتغير نظرتهم للحياة، وتتغير فكرتهم عن الرفاهيه وعن معنى الراحة.
أن تأثيرات الإغتراب الروحية والفكرية والإجتماعية على الفرد، والتى تتمثل فى حرمان الوطن من طاقات ماهره وأيدي عاملة، وخبرات علمية مؤهلة، وعقول نيرة متعلمة ومثقفة من علماء وباحثين، وكثير من الإختصاصات المهمة التي تهاجر إلى الخارج ولا يستفيد منها الوطن، مما يؤدي الى إفراغ الوطن من هذه الإمكانيات التي لها عظيم الأثر في تقدمه وتطوره ونهضته، ولا ننسى الأجيال الجديدة البعيدة عن جذورها وقضاياها، وهذا أمر مهم يختلف من فرد إلى فرد ومن مجموعة إلى أخرى حسب تماسكها في الخارج.
أما الجوانب الإيجابية للأغتراب ففي مقدمتها التعرف على ثقافات ومجتمعات جديدة، وعادات وتقاليد ولغات مختلفة لما لهم الأثر في التعرف على المجتمع الجديد والتواصل مع أبناءه، فالقيم السامية التي يتعلمها الفرد من احترام الانسان وحرية الدين ، عدم الخوف من الحاكم، الشعور بالأمان والثقه، حرية التعبير، “التي يفتقدها الفرد أصلا في بلد المنشأ”، إحترام المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة دون تمييز بين ذكر أو أنثى، حرية الرأي والرأي الآخر ،توفير الرعاية الصحية والحياة السعيدة للأطفال ، القوانين التي تصدر لتسهيل عملية الإندماج مع المجتمعات، سهولة التنقل داخل وخارج المدن ، ولا ننسى الفضل الكبير للغربة والألم، لما لهما من تنشيط وتحفيز الفرد قي تفجير الطاقات الإبداعية من بحث وكتابة وكذلك الحث على النجاح والإبداع لإثبات ذاته في غربته.
يجب على الحكومات والمسؤولين أن يتنبهوا الى موضوع هجرة العقول والكفاءات وإستنزاف الطاقات البشريه الهامة، الذين لا يبالون لهجرتهم بل غالباً ما يكونون هم المسبب الرئيسي لهذه الهجرة، من ملاحقات سياسية وفكرية، بلادنا لا تنهض الا بسواعد أبناءها المتعلمين الذين يختارون الهجرة بسبب مايواجهونه من إنعدام الفرص وتفضيل غيرهم من أصحاب المحسوبيات والواسطة “أحيانا ما يكونون من حاملي الشهادات المدفوعة سلفا” نظراً لشعورهم ظلم وعدم المساواة، فيرفضون البقاء ويفضلون الهجرة بكل مرارتها والسير الى المجهول وإن كان فيه بصيص أمل ضعيف لنيل حقهم وغالباً ما يتوفر هذا في بلاد الغربة بعد كد وعناء شديدين وصبر على ظروف صعبة في بداية مشوارهم بغرض تحسين حياتهم، والشعور أن هناك فرص لهم بالتقدم والترفيع كل حسب اجتهاده وجهده .
العمل ثم العلم والإجتهاد هم أساس نجاح المغترب، ولكن ما ينقصنا دائما في الغربة هو هذا الوطن الذي يسكننا ويسكن تفاصيلنا اليومية، هو الحنين والإشتياق الى تفاصيل جميلة بسيطة لن ننساها وتعودنا عليها في صغرنا ، فالجمال يكمن في البساطة .
جذورنا، أصالتنا وحضارتنا لا غنى لنا عنها، حتى لو أعتقدنا بأننا نعيش فى رفاهية، ومهما تقدمت بنا السنين، فهي السند القوي الذي يعطينا الثبات والثقة والذي يقوينا دائما في مواجهة الصعاب، فالعودة الى الوطن هي مطافنا الآخير.
الناس تحسدك دائما على شئ لا يستحق الحسد، لأن متاعهم هو سقوط متاعك، حتى على الغربة يحسدونك، كأنما التشرد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقداً وحقداً ( أحلام مستغانمي من رواية عابر سبيل ) .
أختم بما خطته ريشة الشاعر السعودي ابن معصوم المدني حينما قال :
هل يعلم الصحب أني بعد فرقتهم
أبيت أرعى نجوم الليل سهرانا
أقضي الزمان ولا أقضي به وطرا
وأقطع الدهر أشواقا وأشجانا
ولا قريب اذا اصبحت في حزن
ان الغريب حزين حيثما كان.
بقلم : عبدالله العبيدالله
This site is protected by wp-copyrightpro.com