كان معن يترقب المدير الجديد , ألتحق بالادارة مؤخرا عائدا بعد طول غياب تسبقه الأقاويل أنه مدعوم من المدير العام للإدارة ذاتها . كان معن في يوم من الأيام مديرا للإدارة ذاتها وبسبب ظروفه القاسية أختار التنحي عن المنصب وتركه وبحكمته المعروفة رضي بأن يكون نائبا فقط.
عينان الجديد كانت تنذر بالوعيد , عينان كعيني الثعلب وضحكة صفراء منمقة يصل شعور فتورها حينما تتلاقى عيناهما , مدير سابق وأخر جديد وبنذير خطر محدق .
وصدق شعور معن كعادته , بدأت العلاقة تسوء بينهما دون سبب مقنع . تتوالى عليه الإنذارات ويتم رفض اجازاته والتقاعس عن قبولها. وفي كل إجتماع عمل يتم ذكر إسمه والتركيز عليه , تهكم سخرية نظرات تحدي , لم يستطيع معن تفسير مايدور !
أهو القلق من المنافسة . أم مجرد عدم إرتياح من الجديد له ؟ ام تصفية حسابات أم ماذا ؟
واستمرت الحرب الباردة من الجديد على معن , فزاد عدد المراجعين عنده بمعدل أربعة يوميا وحينما تقصى عن الأسباب أجابه المسؤول ِ عن تنظيم جداول المراجعين أنها أوامر ( الجديد) بتعبئة جدولك أولا وتقليل ساعات الراحة . وشهد له بالأوراق ان غيره يتمتع بالعدد الأقل وبعدد ساعات راحة أكبر .
وزاد ضغط العمل عليه وكثرت الشكاوي من المراجعين فلا يطيقون الإنتظار لمجرد الإنتظار فيستقبلهم ببشاشة ويعدهم بالخير فتخفق محاولاته تارة وتنجح أخرى . والجديد يكيل إليه فيصيد خارج مكتبه كل معارض وينصحه بالشكوى الكتابية على معن ويربت على كتفه إن فعلها . ومعن منغمس في عمله وحزين لما آل إليه الحال ويتسائل داخله !! لماذا ؟
ويوما بعد يوم يزداد شعور معن بالظلم إلى أن شق عليه النهوض للعمل وبات حزينا كسيرا فالجديد يتوعده بأقل دقيقة تأخير , ويراه في مواقف السيارات ينتظره ويراقبه ! ويضيق عليه الخناق وتلاشى النقاش وحل مكانه الجدال اليومي واصبح كالوسيلة الوحيدة للحوار بينهم .. والجميع يتحدث عم ما يدور .حتى مكتبه الذي أمضى فيه اثنى عشر سنة أخذه الجديد عنوة وأصبح مكتب الجديد يباشر عمله منه وتم نقل مستلزمات معن في مكتب صغير مزوي في إحدى عطل الربيع وعلى حين غفلة .
وفي صباح غائم أستدعاه الجديد وأخبره بنقله الى ادارة أخرى بعيدة وذكره بكثرة مشاكله والشكاوي حوله لذا تم أخذ الإجراء اللازم …جزع معن وتألم مستنكرا ولاذ بالصمت وانتهت الجلسة مع مديره بنظرات شجن وأخرى إنتصار .فجاءه الخبر اليقين من مراسل الإدارة يطلب توقيعه بالموافقة فامتنع معن.
استنجد معن بأصدقائه وزملاء العمل فهم شهود إثبات على تعدي الجديد وظلمه وكل ماحدث , تراخى الجميع عن مساعدته ونكسوا رؤؤسهم يدعون له بالتوفيق . فالجديد( خاله )يشغل منصبا كبيرا لادارة عليا , وقد رشحه بالتالي لمنصب أعلى وله مناصرين وداعمين في جهته ثم انه المسئول عن تقييم عملهم وترقياتهم .
عاد معن إلى مسكنه وهو يتجنب نظرات وتساؤلات الجميع وأدى صلاته وسجد باكيا يسأل العون من المعين لمن لا سند له سواه .
استيقظ معن من نوم عميق وارتدى ملابسه وغادر المنزل الى حيث قاده تفكيره وصلاته . وقدم شكوى للادارات العليا , وتوقف عن العمل . فلابد له أن يثبت نزاهته وأمانته فالجديد حارب معن لانه يعلم قوته في الحق والجديد يريد ساحته خالية من الهمم العالية النزيهة .
وطالب بالتحقيق مع الجديد .. ووصل إلى مسامعه الحنق والغضب في إدارته السابقة وكيف أن الجديد يجاهد في سبيل نقله الى المركز الصغير … وانتهت قصته بأمر نقله إلى حيث طلب معن أكبر إدارة وفي أفضل صورة ورفض الجديد الموافقة على طلب معن وتم إجباره ورضخ كارها ..
وترك معن عمله الذي قضى فيه اثنى عشر عاما منذ تخرجه من احدى الكليات العلمية المرموقة وحتى تعيينه فيها, وشعر أن كل شي فيها قد أصبح وراءه وأن كل الاشياء الجميلة واللحظات السعيدة والأماكن اللتي شهدت أجمل ذكريات عمله قد أصبحت ماضيا ولا سبيل ارجاعه إلا في الخيال… وحتى هذا الخيال قد يصعب عليك أحيانا أن تستمتع به استمتاعا كاملا الا داخلك فقط !!!
ومن عظمة تصاريف القدر أن معن كثيرا ماحاول الترقية بعمله وحاول جاهدا النقل للإدارة الحالية لأنها صرح عظيم يشاد بفخامته وتماشيه مع متطلبات العصر ونزاهة العاملين فيه ..
وبعد ثمانية شهور زمنية فقط ….. تم ترقية معن الى رئيس قسم في ادارته الجديدة الحالية …
وجمعته الظروف بعدها كثيرا بالجديد فادارة الجديد تابعة تحت ادارة معن الحالية , طريقين متوازين , معن شامخ الرأس مرفوع الهمة والجديد يتحاشى النظر غاضبا حاقدا !
فرب ضارة نافعة .
بقلم : د. نادية بخش
This site is protected by wp-copyrightpro.com