(المعجم في اللّغة والنَّحو والصّرف والإعراب والمصطلحات العلميّة والفلسفيّة والقانونيّة والحديثة)
بقلم: د. إيمان بقاعي
تتطوّر اللّغة وتنمو وتتّسع على مرّ العصور من حيث صرفها وقواعد نحوها، أو من حيث مفرداتها وتراكيبها وأساليبها تبعًا لتطوّر النَّاطقين بها اجتماعيًّا وفكريًّا وحضاريًّا، ما يعني أن مجموعات كبيرة من ألفاظها وصيغها تتغيّر مدلولاتها ومفاهيمها مع تغيّر العوامل والظّروف الطّبيعية والحضاريّة المختلفة، فتصبح من الضَّخامة والتَّشعّب بحيث لا يستطيع أحد الإحاطة بها مهما بلغ علمه بها حتى من بين أولئك الذين عاشوا في عهد نقاء وصفاء وفصاحة اللّغة العربية وقت نزل القرآن الكريم على الأمّة، ما دفع بعلماء اللّغة إلى تصنيف كتب غريب القرآن وتفسيرها كما دفعهم إلى تصنيف كتب غريب الحديث النَّبوي الشَّريف.
من هنا، ومن هذه النّقطة بالذّات، نشأت الحاجة إلى كتب تحيط بجانب كبير من مفردات اللّغة وتراكيبها وكلّ ما يتّصل بهذه المفردات والتَّراكيب من معانٍ ومدلولات تشرحُ وتُبَسِّطُ وتزوّد بمدلولات، فكانت المعاجم.
ولا يمكن أن نجد ابتكارًا لحماية اللّغة العربيّة والحفاظ عليها خيرًا من معجم يحفظ المفردات ويستبعدُ دَخيلَها مُستبقيًا أصيلَها فيكون بمثابة خزانة اللّغة التي تُغني حصيلة الدَّارس اللّغويّة وتنمّيها وتجعلها مرنةً طيِّعة مُثرية كلًّا من عمليتيّ الاستيعاب والتَّعبير.
لقد تفنّنَ الإنسان في تأليف المعاجم وتصنيف مفردات اللّغة حتّى تعدّدت هذه المعاجم وتشعّبت مناهجُها ووظائفُها وأهدافُها، فمنها ما اهتمّ بجمع النَّادر من الألفاظ، ومنها ما اهتمّ بالسَّائد والنَّادر، أو بترجمة وتعريب اللَّفظ مِن لغة إلى أُخرى، ومنها ما اختار مصطلحات العلم والسِّياسة والطّبّ والفلسفة والآداب وغيرها من العلوم الشَّهيرة أو غير الشّهيرة، فوُجِدَت على أرففِ مكتباتنا العامَّة والخاصّة معاجم لم نسمع بها من قبل قد فرضتها حضارة التّطور حتى بات التَّغاضي عن وجودها غير مقبول في عصر تتسارعُ العلومُ فيه وتتنوّع بحيث لا يمكن اللّحاق بها ما لم يكن هنالك دليل في كلّ علمٍ يقود الدّارس والباحث والمبدع في آن.
ولعلّ الدّخول إلى عالم المعاجم يحمل من الصّعوبة والتَّشعّب ما يُرْبِكُ غيرَ المتخصّصين في هذا العلم.
ولعلّ الدّخول إلى عالم المعاجم يحمل في معجم (المعجم) لغريد الشّيخ محمد والصّادر عن دار النّخبة في بيروت في الثّامن والعشرين من شهر حزيران 2010 ـ نكهةً أقلّ ما يُقال عنها إنّها نكهة عِلمِ اللّغة بِنَفَسٍ أُنْثَوِيٍّ استطاع خلال عشر سنوات سبقتها سنواتُ تحضيرٍ ليست بالقليلة وسبقتها أُسُسٌ مِنَ التَّأليفِ والشَّرح والكتابة الغزيرة المعطاءة عطاءَ الأنثى، بنفَسٍ مُدَقِّقٍ، مُرَتِّبٍ، مُمَحِّصٍ، مُشَكِّكٍ، مُعيدٍ، حاذفٍ، مُضيفٍ، والأهمّ: مصمّم على بلوغ الأفضل.
كذلك فإن الدّخول إلى عالم هذا المعجم – الّذي لا يُشبه المعاجم العربية الأخرى القديمة والحديثة – لا يشبه الدّخول إلى عوالم هذه المعاجم. فمن بَوَّابَةِ العرب وتفاصيل اللّغة الثّريّة التي عشقتها غريد الشّيخ محمد ورصفتها كما يُرْصَفُ الماسُ بعناية فائقة وفنٍّ خرج عن هدوء وسكون مدلولات اللّغة الوظيفيّة السّاكنة عادة في المعاجم إلى استعدادٍ مدهشٍ لاستخداماتٍ تُسْمَعُ وتُكْتَبُ وتُقْرَأُ مِن قِبَلِ مَن أُعْطِيَ موهبةَ تذوّقِ اللّغة.
من هذه البوّابةِ العربيّة دخلتْ مُسَلَّحَةً بإيمانٍ قويٍّ شرعت بَوَّابته أمامها أنثى قوقازيّة شركسيّة – هي أمُّها- علّمت غريد الشّيخ محمّد مُذْ كانت صغيرةً أنَّ القومَ الّذين يعملون بجدٍّ لا يتكلمونَ إلَّا القليل، وإنَّما أعمالُهم تتكلّمُ عنهم. ومن هنا، وبصلابةِ صخور القوقاز التي قاومت كلَّ محاولٍ سرقة الوجودِ قاومت غريد الشّيخ محمّد كلَّ المصاعب الَّتي يمكن أن تنشأ على مدى السّنوات وتُوحي لكثيرين ممن لم ينشؤوا على صعود الجبال وتذليل الصّعاب أن ينسحبوا مُؤْثِرِينَ السَّلامةَ وتاركين الأعمال الصَّعبة لمن يهوى التّعبَ مُكتفين بالكلام عن مشروع كان قد بدأ ولكنَّه لم ينتهِ شأنُه شأن كلّ المشاريع التي يلتزمُها أدعياءُ الثَّقافة والعلم وناقصو الإرادة والصَّلابة.
عن (المعجم):
1- تكمنُ أهميّة (المعجم) لغريد الشَّيخ محمّد في كونه مُرَتَّبًا ترتيبًا هجائيًّا يُذكِّرنا بعليّ بن الحسن الهنائي المشهور بكراع، أو كراع النّمل (ت 310 هـ) الَّذي فكّر في هذا المنهج الألفبائيّ النّطقي الّذي تبنّته معاجم اللّغات اللّاتينية، وطبّقه في معجم له عنوانه “المنجد في اللّغة”، إذ رتّب كلمات جزء كبير منه ترتيبًا هجائيًّا بحسب أوائلها بِغَضِّ النَّظر عن كونها أصليّة أو مزيدة، وكذلك يذكّرنا في منهجه بكتاب “الكلّيّات في المصطلحات والفروق اللّغويّة” لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي (ت 816 هـ)، وكتاب “التَّعريفات” للشَّريف علي بن محمد الجرجاني (ت 816 هـ) والَّذي لم يلقَ انتشارًا أو قبولًا بالطّبع من لدن المعجميّين العرب القُدامى لأنّه – باعتقادهم – يفصمُ عُرى المادّة اللَّغويّة الواحدة ويفرّق بين مشتقاتها، ولكن هذا المنهج عاد فتصدَّر مكانة مهمّة في صناعة المعاجم العربيّة لكونه يُسَهِّل على مُستخدم المعاجم الوصول إلى الكلمة المرادة؛ وهذا ما دفع غريد الشّيخ محمّد إلى اعتماد هذا المنهج الّذي لا يتطلّب في البحث عن الكلمة سوى صحّة نطقها أو سلامة كتابتها متخطّيةً المناهج الأُخرى المعتمَدة في مجال المعاجم كالمنهج الصَّوتي ومنهج القافية والمنهج الهجائي الجذري.
2- رغم أن (المعجم) هو معجم عصريّ جامع لمصطلحات العلوم الحديثة والقديمة، فإنّ غريد الشّيخ محمّد في معجمها هذا قد استندت إلى المعاجم العربية المهمّة والمعروفة، فاختارت المعاني البعيدة عن الوعورة مع رجوعها إلى القاموس المحيط وتاج العروس ولسان العرب في حال اختلفت المعاجم بالنّسبة إلى جذر الكلمة خاصّة من دون أن تستبعد أيّة كلمةٍ قد تطرأ لباحث أو شارح شِعر أو أدب قديمٍ مليء بألفاظ ماتت أو تكاد.
3- ابتعدت غريد الشّيخ محمّد عن الانتقائيّة السَّائدة بكلّ أسف في معاجم اللّغة الموجودة بين أيدينا، والّتي بفخرٍ يقول أصحابُها في مُقَدَّماتهم إنّهم اتّبعوا الطَّريقة الانتقائيّة الاستنسابيّة في اختيار الألفاظ الواردة ما يبعث في نفس طلّاب معرفة اللّغة شيئًا مِن شكٍّ لا يلبث أن يُبنى عاليًا كلما بحث الباحث عن كلمة فلم يجدها لسببٍ مُبَرَّرٍ سلفًا فيبدو وكأنه عُذْرٌ أقبح من ذنب هو: الانتقائية!؟ ومن هنا كان لا بدّ من الخروج عن منهج الجمع العشوائي السّائد الّذي يُسيءُ إلى اللّغة والأُمَّة معًا وذلك للعودة إلى النَّهج الّذي يحترم اللّغة العربيّة من خلال الاستبقاء على ألفاظ اللُّغة الأمّ حتى تلك الّتي أكل الدّهر عليها وشرب، فدواوين العرب وآدابهم وعلومهم ومقاماتهم وخطبهم ومعلّقاتهم ما زالت بين أيدينا ومازلنا نعود إليها بألفاظها ومعانيها، فلنتصوّر أنّ كلّ المعاجم قد هُذِّبَتْ وشُذِّبت وقُصّرت وأُخضعت لإزالات عشوائيّة، فأين نجد (سجنجل) امرئ القيس مثلًا؟
4- يتميّز (المعجم) لغريد الشّيخ محمّد بشكله الّذي ظهر بمستوى راقٍ يتماشى تمامًا مع التَّطوّر الحاصل في الطِّباعة والإخراج والتَّصنيف، بالإضافة إلى استخدام الحرف الواضح الرَّسم والحجم والخارج ببراعة من منظومة حروف المعاجم الموجودة في الأسواق، وكذلك إحكام ضبط نطقِ الكلمات وإملائها ليتمكّن مستخدم اللّغة من التقاطها على صورتها الصّحيحة ومن ثم استخدامها على وجهها السّليم. هذا بالإضافة إلى استخدام الورق السّميك الجيِّد الصّقيل الّذي يعطي للكلمة خلفيّة ثَرِيّة على غير ما تعتمده المعاجم الأخرى من ورق رقيق يعجز الباحث فيه عن قراءة كلمة لظهور ما خلفها في الصَّفحة المقابلة.
5- يتميّز (المعجم) بشواهده التّوضيحيّة التي اعتمدت الكاتبة في الكثير منها على آيات من القرآن الكريم إلى جانب الشَّواهد اللَّغويّة العربيّة الأخرى التي تتّصف بقصرها وفصاحتها وسلامة صوغها وسلاسة معناها، فلا تشكّل صعوبة لغويّة جديدة تشرح الصَّعب بالصَّعب كما نلحظ في كثير من المعاجم العربيّة التي لا تؤدّي وظيفتها في الشّرح والتّفسير؛ بل إنّ الشَّواهد الموجودة في (المعجم) تجمع إلى الفائدة اللّغويّة فائدة ثقافيّة وحضاريّة وفكريّة مدروسة بدقّة كي توضح معنى الكلمة أو مدلولها وتبيّن طريقة استعمالها للباحث فإذا بالكلمة تنهضُ من هدوئها المعتاد وتكتسي ثوبًا يدلُّ على حضارتنا اللّغويّة التي ذكّرتنا غريد الشّيخ محمّد في (المعجم) بأنَّها تستحقّ أن نرفلَ بها.
6- يتّسم (المعجم) بسمة موسوعيّة لها صفة الإحاطة والشّمول، فهو قد جمع بدقّة وبمنطق لغويّ حضاريّ في آن مجالات المعرفة من فنون وآداب وعلوم قديمة وحديثة بالإضافة إلى قواعد العربيّة التي لم تترك غريد الشّيخ محمّد منها شيئًا خارج (المعجم)، فإذا به يصلح – إلى كلّ ما حوت دفّتاه من علوم – أن يكون مرجعًا كافيًا لطلّاب علوم النّحو والقواعد المتخصّصين منهم وغير المتخصّصين.
7- قد يكون من الغريب أن أشير إلى أن غريد الشّيخ محمّد استطاعت بدقّتها ومعرفتها باللّغة وتفاصيلها التي لا يتقنها إلَّا مَن يتنفّسها بعشق، أن تُنقذ (المعجم) من جرائم همزات الوصل والقطع الّتي تُعاد طباعة المعاجم العربيّة عشرات المرات وتُوَزَّع بهمزاتها المُخجِلة تمامًا كما توزَّع كتب اللّغة العربيّة على أبنائنا منذ نعومة أظفارهم مكرّسة أخطاء فادحة يمكن أن تُودي بالأُمَّة إلى الهاوية إن لم يسارع الغيارى إلى شنِّ حملة مراقبة وتصحيح مبادئ اللّغة قبل أن يفوت الأوان.
أخيرًا…
أعرف كلَّ المعرفة أن (المعجم) هو حصيلة عملٍ لم يكلّ ولم يملّ، لم يفترْ رغم مرور السَّنوات، فكان أشبه بخليّة نحلٍ تُديرها ملكةٌ لا تهدأ، بل كان خليّة النّحل التي أنتجت قُرصَ عسلٍ بلون الشّمس، نقيًّا، شهيًّا، يسمح لنا أن نغمض أعيننا بهدوء فلسنا خائفين على اللَّغة ما دام لديها حارساتُها.
This site is protected by wp-copyrightpro.com