سلسلة مقالات لمواجهة الفكر المتطرف
مواجهة فكرهم يتطلب أساليب غير تقليدية
انتهينا في المقال السابق إلى أن الانعزالية سمة من سمات شخصية المتطرفين، فهم لا يسمعوننا؛ يتجنبون مشاهدة القنوات التليفزيونية العادية سواء التابعة للدولة أم القنوات الخاصة، وتحرص التنظيمات الإرهابية على عزلهم عن جهود التنوير والتثقيف ليظلوا محاصرين فكرياً في عالمهم المظلم.. وتحاط عقولهم بسياج من المفاهيم المغلوطة فيظلوا عليها عاكفين.. لذا فإن جهود مواجهة فكرهم المتشدد يحتاج لآليات غير تقليدية.. فالفرض الذي نحن بصدده أننا نواجه أشخاصاً دخلوا بالفعل لدائرة التطرف، سواء ظلوا بها أم انزلقوا لدائرة الإرهاب، فتصبح المهمة في الحالة الأخيرة أكثر صعوبة بطبيعة الحال، لذا لا شك أننا نحتاج لأساليب غير تقليدية.. خاصة من خلال المنابر الإعلامية للوصول بداية لأصحاب هذا الفكر ثم مواجهتهم وتغيير معتقداتهم المنحرفة، وقد سبق وطرحنا في أكثر من منبر إعلامي آلية المناظرة العلنية كوسيلة لتحقيق الهدف؛ ونادينا بعقد هذه المناظرات بين جانب من أصحاب هذا الفكر المتشدد وعلماء الإسلام الثقات لتفنيد الأدلة التي يستندون عليها، ويتبنون بموجبها معتقداتهم التي تتسم بالغلو في الدين.
هذا وطرحنا نموذجاً تطبيقياً لهذه الفكرة تمثل في مناظرة الإرهابيين الانتحاريين اللذين تم القبض عليهما ـــ في ضربة أمنية استباقية قام بها الأمن الوطني المصري ـــ ضمن خلية إرهابية مكونة من ستة عناصر كانت في سبيلها كان مخططاً قيامهم بتفجير انتحاري مزدوج أمام إحدى الكنائس بالإسكندرية صباح أول أيام عيد الفطر المنصرم.. ونشر فيديو على شاشات قنوات تليفزيونية وعلى موقع youtub يحمل اعترافات كاملة للمتهمين الستة.. وقد وُجِهت لهذه التسجيلات سهام نقد من قبل القنوات التليفزيونية التي تروج للإرهاب وكذا من الكتائب الإلكترونية التابعة لها؛ مدعين أن المتهمين تعرضوا لإكراه معنوي من قبل أجهزة الأمن.. لذا رأينا أن أسلوب المناظرة خاصة للمتهمين الانتحاريين ( أحمد محمد زيد ؛ حمزة شعبان عبد الرحمن) سيكون أكثر جدوى من مجرد تسجيل اعترافاتهم وإذاعتها؛ فالمناظرة من شأنها حث الإرهابيين والمتطرفين على مشاهدتها؛ خاصة إذا تمت في إطار ضوابط عادلة أهم ملامح تطبيقها من وجهة نظرنا :
1ـــ موافقة صريحة من المتهمين.
2ـــ أن تتم في حضور رئيس نيابة مختص لضمان عدم وجود أي إكراه يمارس على المتهمين أو اتخاذ أي موقف من شأنه الإضرار بحقوقهم الأساسية.
3ـــ تتم مناظرة المتهمين من قبل اثنبن من شباب الدعاة الأزهريين ـــ يفضل أن يكون أحدهما مصرياً والآخر من جنسية أخرى ـــ فلا يناظرهما كبار علماء الأزهر؛ لتتحقق بهذا العدالة متمثلة في التقارب المتعلق بالعمر والخبرة لأطراف المناظرة؛ فعلماء الأزهر الكبار يناظرون زعيماً روحياً لتنظيم إرهابي ومن في مستواه.
4ـــ كما يشارك في المناظرة عنصر قانوني/ أمني لطرح الخلفيات المتعلقة بالقضية والمتهمين أمام الجمهور.
5ـــ وأخيراً يدير المناظرة إعلامي يتسم أداؤه بالحيادية.
ولعل المناظرة التي تتم بضوابط عادلة تكون خير دافع للمشاهدة على المستويين المحلي والدولي ـــ بعد إجراء ترجمة مصاحبة لها ـــ فغالبية المتطرفين سيدفعهم الفضول للمشاهدة؛ وبالطبع ستكون الأفكار التكفيرية المحور الرئيسي للمناظرة، وأتوقع أن يتم من خلالها تقديم صورة الإسلام الحقيقية الصحيحة والتي ستجد صداها لفئة من هؤلاء المتطرفين.. .
وشاهدنا مؤخراً تطبيقاً عملياً قريباً من فكرة المناظرة؛ وذلك من خلال الإعلامي الكبير عماد أديب؛ حيث حاور الإرهابي عبد الرحيم المسماري؛ وهو الإرهابي الليبي الذي شارك وآخرين مصريين في الهجوم على قوات الشرطة المصرية بالكيلو 135 طريق الواحات في 20 أكتوبر 2017 واستشهد في هذه المواجهات 16 عنصراً من الشرطة، وتم تتبع الإرهابيين والقضاء عليهم جميعاً فيما عدا المسماري الذي تم القبض عليه، وذلك خلال أسبوع واحد من تاريخ المواجهة المشار إليها، وأظهر الحوار مع الإرهابي الكثير من جوانب التشدد عند الإرهابيين، كما تبين من خلاله أيضاً حجم وخطورة التسليح وأجهزة الاتصال المتاحة لتلك العناصر الإرهابية؛ لذا أراه بداية ناجحة وخطوة هامة على الطريق.
عماد أديب يحاور الإرهابي عبد الرحيم المسماري
وعقب إذاعة الحوار المشار إليه فقد وُجهت على أثره سهام نقد تتمركز حول عدم قدرة المحاور القدير عماد أديب على الرد على الحجج الشرعية التي ساقها المسماري لإثبات صحة عقيدته الجهادية.. نعم كان حواراً ولم تكن مناظرة؛ ولا أطلب من الأستاذ عماد أن يناظره فهو ليس متخصصاً في علم الإسلام، ولكن كان من الضروري حضور عالم من علماء الأزهر هذا اللقاء للرد من منظور شرعي على الإرهابي؛ لدحض معتقده وإقامة الحجة عليه وإظهار ضحالة فكره الديني أمام العالم بأثره.. وقد حاول الأستاذ أديب تدارك هذا الأمر في لقائه ما بعد الحوار، حيث استضاف بعض المتخصصين في شأن الجماعات الإسلامية للتعليق على أفكار المسماري؛ ولكن المباراة تحسم في وقتها الأصلي.. وليس من خلال لقاء ملحق بالحوار رغم أهمية الحوار اللاحق.. نعم إخراج المشهد بشكل عام كان في الإمكان ترتيبه بشكل أفضل، ويبدو أن الانتقادات المشار إليها ترتب عليها خشية من تكرار هذه التجربة الإعلامية.. !!! وما زلت أؤكد على أهمية عقد هذه المناظرات مع إخراجها بشكل أمثر تميزاً، ولما لا ونحن نملك كل مقومات إنجاح الفكرة.. .
وفي المقال القادم بإذن الله سنحاول تقديم رؤية لأهم محاور تجديد الخطاب الديني. ولعل خير ختام لهذا التأملات الفكرية قوله المولى عز وجل ” وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ” (24 الكهف(
بقلم : اللواء دكتور شوقي صلاح
خبير مكافحة الإرهاب
عضو هيئة التدريس بأكاديمية الشرطة المصرية
This site is protected by wp-copyrightpro.com