الفكر التجاري يأبى الاستسلام، ويأبى حتى الاعتراف، ويظل متشبثا بجيوب المستهلكين بأظفار من حديد، خاصة في بلادنا التي يمتاز معظم تجارها بـ(الأنانية) المفرطة، مع حرصهم على رفع الشعارات واستغلال المناسبات الوطنية والاجتماعية لكن بطريقة مدروسة بعناية، يعرف من خلالها ضآلة (الصادر) وضخامة (الوارد).
من أكثر من عام ونحن نسمع عن هبوط أسعار المواد الغذائية في العالم، خاصة بعد هبوط أسعار النفط، لكن كل تلك الأخبار لم تؤثر في أسعار المواد الغذائية عندنا، وبالكاد استطاعت المحافظة على الأسعار من الارتفاع، ثم جاءت وزارة الإسكان وتنظيم العقار والأراضي البيضاء، وطفق المحللون يتنبؤون بهبوط حاد في أسعار العقار، لكن هذا أيضا لم يحدث فالأسعار في الأعالي، وحتى تدني دخل الفرد بعد التنظيمات الأخيرة لن يؤثر في الأمر.
أيضا لو تأملنا سوق السيارات، وما يعانيه من ركود، نجد تجار السيارات لا يقرون ولا يعترفون، بل يتشبثون بالأسعار القديمة، ويتعلقون بسقفها، ثم يتدلون إلى المستهلك منها عارضين لوحات (استرجع مبلغ كذا وكذا) لأنهم يرون في كتابة سعر السيارة الحالي هزيمة لجشعهم وإصرارهم على سقوف الأسعار العالية، شاركتهم فيه حتى البنوك المهيمنة على رواتب الموظفين من خلالها ومن خلال المحروسة (سمة)، فالفائدة البنكية أعلى في سوق السيارات منها في برامج (التمويل) الأخرى.
بعد القرارات الأخيرة، لو لم تسارع مؤسسة النقد وتجبر البنوك على (جدولة أقساط الغلابة) بما يتماشى مع سقوف الرواتب المنخفضة لما فكرت مطلقا في ذلك، ولربما اجتمع جلاوزتها لرسم استراتيجيات الاستفادة بأي طريقة ممكنة من الأزمة المالية، وكأنها لا تمت للوطن والمواطن بصلة، وليست معنية بكل ما يدور.
ثم الأمر المستديم يتمثل في ضعف برامج المسؤولية الاجتماعية لدى الكثير من رجال الأعمال والمؤسسات عندنا، ما يفتح الكثير من الأسئلة حول تصورهم ورؤيتهم (للوطن)، واعتباره كأي سوق عالمية أخرى، مع أن الشركات ورجال الأعمال يساهمون غالبا حتى في غير مجتمعاتهم، لكن الحال لدينا مختلف تماما، فالأسماء المساهمة قليلة جدا نسبة إلى القاعدة التجارية والاستثمارية العملاقة في بلادنا.
إن الأعمال الخيرية التي يساهم فيها بعض التجار بزكواتهم، أو بالتكفير عن ذنوب اقترفوها في جمع ثرواتهم ليست هي (المسؤولية الاجتماعية)، فالزكاة ركن إسلامي واجب الأداء، والتطهر من الذنوب بينهم وبين بارئهم، لكن ثمة الكثير من المشاريع التنموية والحيوية في حياة الناس العامة تحتاج إلى وقفة وطنية صادقة من رجال الأعمال، وقفة تعبر عن وطنيتهم الحقة، دون شعارات براقة ولا مستغلة.
لا أنكر مطلقا أن من رجال الأعمال من يسهم عميقا في مشاريع اجتماعية عظيمة، وهم معروفون وجهودهم ملموسة، لكن كما أسلفت الغالبية (العظمى) لا يعرفون من الوطنية إلا الهدايا للمسؤولين، أو (السعودة الوهمية) للتحايل على أنظمة التجارة والعمل.
ختاما/ لو أنشأت وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، بالتعاون مع وزارة التجارة إدارة (جادة) للمسؤولية الاجتماعية، تعمل على تنظيم تبني ودعم المشروعات الاجتماعية، وعدم تركزها في شق (العمل الخيري) الموجه لشريحة واحدة، وتعمل على ابتكار الأفكار وطرحها على رجال الأعمال، ثم تدرج نقاطها في برنامج نطاقات، لكانت أجدى من نقاط السعودة؛ لأن مؤشرات التوظيف ليست دقيقة، أما تنفيذ برامج المسؤولية الاجتماعية فقياسها على أرض الواقع متاح للمسؤول والمواطن
الكاتب أحمد الهلالي
This site is protected by wp-copyrightpro.com