سلسلة مقالات مواجهة الفكر المتطرف
تطبيقات ودروس مستفادة
يتفق الخبراء على أن التطرف الديني يعد بمثابة الجذور للموجات الإرهابية التي تجتاح العالم الآن، فإذا أردنا أن نواجه الإرهاب مواجهة حقيقية فلنقتلعه من جذوره.. ولاحظنا وجود حالات كثيرة يتحول فيها المجرم الجنائي لدائرة التطرف ثم الإرهاب.. نعم متابعتنا لقضايا التطرف والإرهاب تؤكد وجود هذا التحول، وأذكر عندما عملت في فترة التسعينات من القرن الماضي في مواجهة الإرهاب بمديرية أمن أسيوط في صعيد مصر ــ كانت المديرية بمثابة بؤرة الإرهاب الأخطر في تلك الفترة ــ ورصدنا حالات تحول فيها لصوص من دائرة الإجرام الجنائي التقليدي لدائرة الإرهاب، فقاموا بتغيير مظهرهم مُطلقين لحاهم ومرتدين زياً يشبه زي عناصر تنظيم القاعدة؛ فنادوهم الناس بلقب ” شيخ ” فبعد أن كان وضيعاً أصبح شيخاً.. ! وحفظ هؤلاء بعض الآيات والأحاديث النبوية واحتجوا بها ــ دون فهم لحقيقية مدلولها ــ لتكفير المسئولين بالدولة، وبعد ارتكابهم لجرائم قتل لضباط وأفراد للشرطة، أصبح كل منهم مُهاباً من أهل قريته وتحققت له بهذه الجرائم مكانة في المجتمع؛ ثم قاموا بفرض إتاوات على بعض الناس؛ وسرقوا بالإكراه محال للمسيحيين بدعوى أنهم كفار.. وبهذا فقد وجدوا في ادعاءاتهم التدين الزائف ملازاً للتطهر من سجلاتهم الإجرامية؛ بل وحققوا من خلاله مكانة لم تكن لهم من قبل.. وما فعله هذا الإرهاب لا يعدو عن كونه اتجاراً بالدين لا تُخطِئه عين.
وما رصدناه في أسيوط وجدناه واقعاً تابعنا أحداثه في فرنسا؛ حيث ارتُكبَت في مارس 2012 سبع جرائم للقتل؛ ثلاثة منها لعسكريين فرنسيين في مدينتي تولوز ومونتوبان، قتلوا رمياً بالرصاص واستخدم الجاني مسدساً لارتكاب جرائمه، ثم ارتكبت أربع جرائم قتل أخـرى بـذات السلاح في هـجـوم على مدرسة ” عوزار حاتورة ” اليهودية في تولوز، وراح ضحيتها ثلاثة أطفال وحاخام يهودي، وأثارت تلك الهجمات موجة استنكار عالمية شديدة، واستطاعت أجهزة الأمن الفرنسية تحديد هوية المشتبه بارتكابه تلك الجرائم، حيث أعلن كلود جيان وزير الداخلية الفرنسي وقتها أن محمد مراح هو المشتبه في ارتكابه الجرائم المشار إليها، وهو شاب يبلغ من العمر أربعة وعشرين سنة، فرنسي من أصل جزائري، ومتطرف إسلامي يحتمل ارتباطه بتنظيم القاعدة، وأضاف أن هذا الشاب سبق له تنفيذ عقوبات بالحبس عن جرائم سرقة ــ وكان يعيش حياته قبل الحبس بحرية تامة دون التزام بأي قيود يفرضها عليه دينه الإسلامي ــ وتقابل في السجن أثناء تنفيذه للعقوبة مع متطرفين إسلاميين استطاعوا اقناعه بفكر التكفير والجهاد، وظهرت عليه علامات التشدد في السجن وتم رصد هذا التحول من قبل إدارة السجن.. وعقب انتهاء فترة العقوبة الموقعة عليه ذهب لأفغانستان وباكستان، وقُبض عليه بمعرفة أجهزة الاستخبارات الأمريكية في أفغانستان، ولكونه فرنسياً تم تسليمه للمخابرات الفرنسية.
محمد مراح ( صورة قبل التحاقه بالتنظيم وأخرى بعد..)
وعقب رجوعه لفرنسا فقد خضع لاستجواب وفحص أمني انتهى بإخلاء سبيله ثم تمت متابعته لفترة زمنية محدودة ليس أكثر، وبعد ارتكابه جرائمه وتحديد شخصيته كمشتبه به فقد استطاعت أجهزة الأمن تحديد مكان اختبائه ــ بمساعدة سكان المنطقة المقيم بها ــ وحاصر ثلاثمائة شرطي فرنسي العقار الموجود به محمد مراح يوم 21/3/2012، ودارت مفاوضات محدودة معه، صرح بناء عليها وزير الداخلية بأن المشتبه به برر جرائمه بكونها تمثل احتجاجاً على مشاركة الجيش الفرنسي في الحرب بأفغانستان، وانتقاماً من اليهود لقتل إسرائيل أطفالاً فلسطينيين، كما أفاد بأن المشتبه به أكد رغبته أن يموت وسلاحه في يده، وأنه رفض كل دعوات الاستسلام.. وبعد حصار ومفاوضات دامت (32) ساعة تقريباً تمكنت عناصر القناصة من إصابة المشتبه به برصاصة في رأسه فأردته قتيلاً.. .
ووجه ساركوزي رئيس الجمهورية وقتها بضرورة فصل الجنائيين عن المتطرفين الإسلاميين في السجون الفرنسية، تجنباً لمخاطر تأثيراتهم الفكرية على زملائهم بالسجن؛ فالفكر التكفيري كالفيروس المعدي؛ والمتطرفون يسعون دائماً لتجنيد أتباع جدد للتنظيم، ثم توظيفهم لخدمة أنشطتهم الإجرامية، ولا نذهب بعيداً بالقول أن التنظيمات التكفيرية الإرهابية لديها عناصر مؤهلة للقيام بمهام التأصيل الشرعي للمُرِيدين.. تثبيتاً لعقيدتهم.
وإذا كان ما سبق ايضاحه من تحولات من دائرة الإجرام الجنائي لدائرة الإرهاب فإن ممارسات التنظيمات التكفيرية الإرهابية لممارسات إجرامية من تلك التي ترتكبها العصابات الإجرامية كالإتجار في المخدرات؛ فقد فعلتها على أوسع نطاق حركة طالبان في أفغانستان؛ كما تاجر تنظيم داعش في الآثار، فدمر العشرات من المواقع الأثرية التي تعود جميعها للتراث الحضاري العالمي؛ فتاجر التنظيم بكل ما يمكن بيعه من الآثار في السوق السوداء ودمر بعضاً مما لا يمكن بيعه.. .
أبو بكر البغدادي زعيم داعش
نادية مراد فتاة يزيدية فضحت داعش
كما تاجر التنظيم في البشر؛ فخطف عناصره الكثير من النساء والفتيات الكرديات واليزيديات لبيعهن كالسلع تماماً؛ ومنهن من جرى تزويجهن عنوة إلى أعضاء التنظيم وتبادلوا عمليات التطليق ثم التزويج بشكل يمثل نوعاً من تبادل النساء بين رجال التنظيم، حقاً استباحوا كل شيء الدماء والأموال والأعراض، تاجروا بالدين على أوسع نطاق.. فأساؤوا للإسلام أكثر كثيراً مما قام به أو توقعه أعداء الإسلام في كافة العالم بأسره.
لواء دكتور شوقي صلاح
خبير مكافحة الإرهاب
عضو هيئة التدريس بأكاديمية الشرطة المصرية
This site is protected by wp-copyrightpro.com