وقفت أمام المرآة، حلت ضفيرة شعرها، مشطته جعلته متناثرًا على منكبيها، خلعت ملابسها الفضفاضة المحتشمة واستبدلتها بأخرى تكشف عن مفاتنها، نثرت رذاذ عطرها على كامل جسدها المرمري ووضعت بعض مساحيق التجميل المحببة لديها.
منذ سنوات بعيدة لم تكن تفعل هذا وكأنها خاصمت الحياة، كانت تقاوم شعورها بأنها امرأة مكتملة الأنوثة، أخفت كل معالمها، فعرضت عن كل ما كانت تفعله سائر النساء من أجل إبداء جمالهن، لم تكن ترتدي إلا ملابسها المحتشمة العتيقة وتكتفي بتمشيط شعرها لأعلى دون ان تسدل خصلة واحدة.
لم يكن تغريها مساحيق التجميل، كانت تدس في إصبعها «دبلة» عريضة، تصد كل من يحاول الاقتراب منها، أغلقت كل الأبواب، لا تصغي لكلمات الإطراء والإعجاب رغم شعورها بالسعادة إلا أنها كانت فظة في ردود أفعالها، تسعد حين تصغي لحكايات البنات و الصديقات وتبتسم وتتجاهل همس بعضهن عليها، تتظاهر بالقوة والثبات بينما هي هشة للغاية.
باغتتها صديقتها يومًا قائلةً:
ـ ألم تشعري بالحب تجاه رجل يا حياة؟
نظرت اليها اومأت بالرفض دون أن تنبس بكلمة واحدة
ـ لكنك لكِ الحق في الحياة، فعلامَ تحرمين نفسك هذا الحق؟
أجابت في حنق:
ـــ لقد مات فؤادي، ومعه مات كل شيء.
كانت تتحدث إليها صديقتها وهي تسدي إليها نصيحتها محاولةً إقناعها أن تحيا قبل أن يتسربالعُمر من بين اناملها، لكن آذانها كانت صماء.
تنتشل حقيبتها في اتجاه عودتها لبيتها الصغير، ثم وهي تسير في الممرات المتتابعة تلحظ عاشقَين يتناجيان،فيضيء وجهها بابتسامة عابرة، تدلف إلى بيتها وتستقبل مكالمة تدعوها فيها صديقتها إلى حضور حفل ذكرى ميلادها، وعدتها بتلبية الدعوة.
لأول مرة منذ سنوات تقف أمام المرآة تناجيها لتساعدها على اتخاذ القرار، انتهت من هندام أزيائها، وفي الطريق قصدت بائعة الزهور، ابتاعت باقة من أزهار البنفسج مزدانة بشرائط براقة تلتمع بألوان الربيع.
صعدت الدَرج يسبقها عطرها الهاديء، قرعت الجرس، فانفتح الباب عن الكرنفال والأضواء والظلال،ولاحت شرائط الزينة معلقة وعناقيد الأضواء متدلية وأصداء التهاني تختلط بالأنغام والضحكات، وعلى حين غِرّة كانت عيناها تتسعان تحت وقع المفاجأة، لقد لمحته بين الجموع، وما هي إلا أن وجدت نفسها قد استدارت في لمح البصر إلى الخارج، لقد انصرفت، وانصرفت معها باقة الأزهار التي جاءت بها، ونزلت السُلم دون أن تدري إن كان قدماها يهبطان بها أم جسدها ينزلق بها على الدَرج.
استقبلت طريقاً مظلماً، الوطاويط تحلق فوق رأسها، وعويل البوم ينتشر في الأجواء، طيور كبيرة الحجم دكناء اللون غريبة الصداح تحوم حولها، سقطت كجثة هامدة أمام مرقده، أصابعها تعانق زهورها، لم تفق إلا حينما انبثق شعاع الفجر من مسامات السحب الشهباء، تنظر إلى اللوحة الرخامية المحفور عليها اسمه، هنا يرقد فؤاد.
تركت أزهارها فوق مرقده.،وتلت بعض الآيات وابتهلت بالدعوات، عادت حيث تقطن، دلفت إلى حجرتها، هبطت بجسدها فوق فراشها الوثير، أتى إليها، توجها بإكليل من شتلات الأقحوان، أسدل عليها طرحة بيضاء دثرت بها وجهها الملائكي، ومضيا.
تأبط ذراعها، سارت معه، دلفت إلى ساحة شاسعة، التقت بأناس من الضباب يحومون حولها، كلما اقتربت إلى أحدهم اختفى من أمام ناظريها، يقبض على كفها المتثلج، يدعوها للولوج لبناء ليس به نافذة ولا باب، أشبه بصندوق مكعب الشكل، برفقته درج، كانت تنساق معه وكأنها غائبة عن الوعي، شاردة، انتبهت أفلتت يدها من قبضة يده، جماجم تتهاوى أمامها لا تدري مصدرها، امست تبحث عن طريق الحياة، الطرق اشبه بمتاهة لا متناهية، تلفتت يمنة ويسرة دون أن تدري أنها كانت تهرول إلى المجهول.
إيمان عنان
This site is protected by wp-copyrightpro.com