ليت الأمور تمضي صوبَ المفاوضات، و لو في محاولة، و لو على طريقة (هَل.لَكَ، هَل.لَكَ..). و على كل حال، ففي مجال و عِلم الدبلوماسية هناك دَيدَنٌ دؤوبٌ و متفانٍ في البحث عن الحلول و اسكتشافها و تحرّيها و تقصّي مكامنها حالما تبدو فرصةٌ او حينما يسَنحُ مجال!
و ذلك باهتمام الدبلوماسي -الحاذق- بتلقّف الفُرصة أنىَّ وجدها و المناسبة حيثما ثقفها، و ذلك إبّانَ سعيٍ مُتواصلٍ و خَلاّق و مُبدعٍ و ذكي.. نحو الحل او حتى لتقريب المواقف و وجهات النظر، و ذلك بما يحقق انجازاً يحصل معه ذلك الدبلوماسي و لو على شيئٌ من التوافق و تحقيق الهدف! و كلـّما صعبتِ الظروفُ و قوي الصراعُ و احتدمَ الخلاف و تزايدت الآلام، كلما تنامت الحاجةُ الى الدبلوماسيين (المبدعين)!
و لا يكون هذا الاّ نتيجةَ (التفاوض)، و بالارتكاز على روحٍ العمل بالمقولة القائلة: ”هناك دوماً حلٌّ و طريقةٌ (..إذا) توافرت العزيمة”؛ و كذلك مع الافتراض القائل بأنّ لكلِّ داءٍ دواءٌ يُستطبُّ به؛ و أيضاً: ما لا يُدرَكُ كلـُّه لا يُترك جـُلـُّه!
و في هذا يلزمُّ اعتمادُ معادلة و مقياس و مبدأ (الحل-الوسط) الذي قد لا يحبذه كثيرٌ في الشرق الأوسط.. حين تجدهم يستخفُّون بـعبارة (الحلول الوسط)، فيحوّلونها الى سياق (أنصاف-الحلول!!).
و الحق يقال أن الحل الوسط -بطبيعة الحال- لا يمكن أن يحقق (كامل) مبتغى و مطلب طرفي التفاوضَ كليهما.. بل إنّ الفن و الحذق هنا هو ان يخرج الطرفان من قاعة المفاوضات بعد تقديم بعض التنازلات.. و بينما يشعران بأنّّ كلاً منهما منتصرٌ كسبان!!
و من حسن الطالع هنا ان فكرة و لفظة ‘الإنصاف’ تأتي في العربية من ‘النصف’.. و بلوغ ناصفة الحق.. و منتصف الطريق! و كان العربي القديم يقبلُ و يرضى به كحلٍ مُرضٍ.. بل كحلٍ سليم و قويم.
و عند نجاح المفاوضات تحملُ النتيجة -العاجلة و الآجلة- فوائدَ مشتركةً و مرابحَ متبادلة. فإنَّ فتحَ المنافذ و الحدود يفتح عوالم متواسعة للتجارة و السياحة و تبادل البعثات و البحوث العلمية و فرص العلاج و الترفيه.. و أنواعاً نافعة عديدة أخرى في مختلف مناكبِ الحياة. فيُسهمُ تنامي كل هذا و ذاك و غيره في اقتصاد البلدين و في نوعية الحياة في (كل منهما).
عِلماً بأنّ مجرد الموافقة على الدخول (أصلاً) الى قاعة المفاوضات.. هو فرضية و توقعُ الخروج منها بأقصى ما يمكن؛ نعم (ما يمكن)؛ و لكن أبداً ليس (بكل) ما كان يبتغيه الطرفان عند بَدءِ النقاشِ.. و حين الشروعِ في السِّجال.
و الدبلوماسي الحاذق و المحنك يقتنص و يغتنم كل فرصة -كل فرصة- لتقريب وجهات النظر.. و لتمهيد جادة الطريق؛ و لتشذيب الزوايا الحادة؛ و إقالة كلِّ ما يمكن من العثرات.
و في حياتنا قد لاحظنا تحرك امريكا إبّانَ عهد رئيسها رِتشـَرد نِكسُن Richard Nixon عند بواكير توجُّهه نحو إخمادِ النيران مع روسيا (الاتحاد السوڤيتي)، بل و لتحقيق ما اسماه وزير خارجيته البارع هِنري كِسنجَر Henry Kissinger نحو التهادن و التخفيف و الترطيب و التهدئة.. سعياً لتحقيق انفراج؛ فاستعار اللفظة الفرنسية ‘دِيتَنت’ Détente؛ و كان ذلك في الواقع طيًَ سعيه لإقامة علاقات دبلوماسية مع الصين الشعبية/الشيوعية!
فكانت الفرصة السانحة -و المفاجِئة- أن علمت امريكا بإقامة مباراة دولية مزمعة في لعبة كرةالطاولة، ففكر الدكتور كِسنجَر ان تشارك امريكا فيها.. رغم البون الشاسع في مستوى البلدين في هذه اللعبة، حيث أن الصين هي (بطلة العالم) فيها بلا منازع.
و مع ان أملَ امريكا في الفوز قاربَ (‘أمل إبليس في الجنة’)، إلاّ انّ مجرد التلاقي و كسر الجمود كان الهدفَ و المطلوب! و سُميت تلكما الحركة و السابقة بدبلوماسية كرة-الطاولة: Ping-Pong Diplomacy! و من بعدها، انفرجت العلاقة بين الدولتين.. و بدأ الإنشراح، و تفتِّحت الأبواب!
فتبقى الدبلوماسية الخلاّقة و حتى المُضنية منها- هي الوسيلة النافعة، و هي سواءُ السبيل.
د.ابراهيم عباس نــٓـتــُّو
This site is protected by wp-copyrightpro.com