الزمن لا يعود إلى الوراء إلا عبر الذكريات، ذلك الدرب الطويل بسككه الوعرة في خط أعمارنا الأولى و بدهاليزه الضيقة التي لا تخلو من فضائح بريئة جدا؛ فمن منا لم يخطئ مع نفسه ناهيك عن أخطائه مع الغير سواء كانت مبررة أو ليست مبررة المهم أن تمر الآن مع شريط ذكرياتنا على نحو الدعابة و القهقهة الممتدة باتساع سهرتنا التي جاءت بغتة بعد عشرين عاما مع زملاء الدراسة الذين غابت أخبارهم و كادت عجلة النسيان أن تسحقنا في هذا الزمن التكنولوجي الذي بات افتراضية بعلاقاته و بمجالسه و بذكريات أيضا.
شاءت الظروف أن نلتقي بعد موّالٍ حزين من الذكريات و لكن – في قرارة نفسي- أسئلة حائرة تسكنها أدوات الاستفهام على رأسها… مَن ينتظر الآخر؟
لا أتحدث عن حجم أشواقنا للقاء لكنه فضول عارم لمعرفة أحوال الزملاء الذين يصارعون رمق الحياة و يكابدون سيرورة العمل طمعا في الوصول لمستوى معيشي مختلف و تحقيق مكانة إجتماعية مرموقة كذلك الحال على صعيد بناء أسرة مثالية أو ذات قيمة معرفية و إنسانية بشكل أو بآخر إما في البلدة أو على نطاق أوسع.
ملامح الشباب لم تتغير كثيراً، لكن كل شخص يدعي أنه تغير و اختلف هذا الإدعاء بمقدار جماليته و صدقه إلا أنه يثير أسئلة أكبر؛ من أنت؟ ما التغيير فيك بعيداً عن المرآة؟ كيف تقضي أيامك و لياليك كبرنامج يومي؟
كنا في سباق زمني كعادة الوقت إما أن تصرعه أو تصرعك لكنه “صرعنا” و لم أجد سوى نزرٍ يسير على إجاباتي التي كانت تدفعني ككرة الثلج لا لأسئل عن كل شيء بل لأسمع كل شيء، حيث كنت أسمع بملء حواسي لدرجة أن كل أعضائي كانت تسمع و تصغي و تتحدث، يا إلهي… ماهو المفعول السحري للضحك الذي أشغلنا عن كل شيء؟!
لا أظن أن أحداً لم تنقلب حياته رأسا على عقب مع التطورات الحديثة و التغيرات في نمط المعيشة و أسلوب الحياة و مفاهيم الثقافة و القيم و العادات التي باتت تجري وراءنا بعدما كنا نجري وراءها حيث لم تعد أمزجتنا كما هي و لم تعد القرية بساطتها كما هي و لم تعد أمهاتنا بذات الطينة و لم تعد أهواؤنا في الحياة كما هي و لم تعد عاداتنا شغوفة بالمبادئ العليا و لم تعد .
ما الذي بقي منا على حاله إذا؟!
أظنه ا ل ط م و ح ذلك الفارس الخفي الذي يعج غباره في ملامحنا و يركض بسرعة البرق كي يقمعَ جرأة الزمن التي كادت أن تقمعنا و تسدد صفعة تاريخية لكل شخص فينا مالم يكن قويا و صادقا مع نفسه و يبلغ ذروة آماله و يتسنم جادة الطريق!
ا ل ط م و ح هو الذي جمعنا، فلنضحك قليلا، ونتذكر كثيرا، ونصمت حدّ الفناء!
ثمة أشخاص قتلهم الطموح؛ أليس كذلك؟
يقول الجنرال جورج باتون : ” لا أخشى الفشل وإنما أخشى أن ينطفىء ذلك المحرك بداخلي والذي يقول لي دوماً ( هناك شخص يجب أن يكون في القمة ، لماذا لا تكون أنت؟) “.
الذكريات أليمة رغم متعتها و كل مرحلة دراسية أخذت منا نصيبا من شغف الوجود و منحناها شقاوتنا و بكارة إنسانيتنا و لتلك المقاعد الدراسية أحاديث مقدسة كأنها من صميم الوحي لفرط نبلها و سلامها الروحي الذي ننهل من طهره و كرامته حتى يومنا هذا؛ فكم من الزملاء الذين نتذكر أخلاقهم و مشاعرهم العذبة كما نقرأ في سير المرسلين و الصالحين؟ هنالك أشخاص تسكنهم السماوات و كأنهم أطياف لذلك لابد من الذكرى و رحم الله من ذكرنا بهم.
ما جعلني أكتب ليس رغبة في الكتابة و لا لكي أدس الوصايا في جيوب زملائي لكنني مصدوم من الزمن الذي جر عربة الوقت على رقابنا ليس فقط قبل عشرين عاما بل حتى في لقائنا؛ لماذا كان سريعا و عجولا؟
رغم خِفّة اللقاء و جمالياته و حميمته و استثنائيته أيضا إلا أنه كان منعطفا سرعان ما غابتْ ملامحنا فيه و ربما تكون الصور التذكارية قادرة امتصاص وتيرة القلق الذي يشهق في نفوسنا إلا أن الأسئلة في داخلي بدأت تمحو منحى آخر؛ ماذا عن أسئلتكم أيها الزملاء؟
هل تفكرون بلقائنا القادم بعد عشرين عاماً؟ أم ستفكرون بعلامات الشيب التي أخذت وضعها في ملامحنا… كيف ستؤثر في أشكالنا؟
ألا يمكن لمسار أسئلتنا أن تتبلور في سياق آخر و معاني مختلفة؛ مثلا… لماذا لا ندعم بعضنا الآخر سواء بالعمل الاجتماعي أو المؤسساتي أو التجاري من خلال تبادل الخبرات أو تقديم العون لمن يحتاجه؟
انتهت ذكرياتنا العشرين، و بدأت الصور تتلبد بدفء الحنين الذي سيكون مخيفا لو فكرنا فيه، فإن هذا اللقاء بمقدار حلاوته إلا أنه مُرّ لأنه أعادنا للوراء و سيأخذنا سنوات أخرى للمستقبل “فبمقدار الفعل تكون ردة الفعل” ليستُ متطرفا بطبيعتي و لكنني أفكر كثيرا في المآلات و في الأقدار و في الإجابات التي ترتقي بي أو أهوي بها و مثلي مثلكم لا أحب السقوط؛ فما رأيكم أن نرتقي ببعضنا في اللقاء القادم و نتحدى المستقبل معنا؟
بقلم : محمد الفوز
This site is protected by wp-copyrightpro.com