الدكتور: عبد الرحمن نصار استاذ التفسير بالأزهر ووكيل وزارة الأوقاف بمحافظة بني سويف
فى ليلة مطيرة شديدة البرد من ليالى الثغر السكندرى ،صليت العشاء إماما بالناس فى مسجد القائد إبراهيم،واستدرت بوجهى نحو المصلين عقب السلام ،فرأيت رجلا فى مثل سنى يبتسم ابتسامة ذات جاذبية شديدة ،ولم تكن تلك الابتسامة إلا رسولا يطرق قلبى بقوة ليفتحه لذلك المأموم المبتسم ،
فبادلته تحية بتحية ورددت عليه ابتسامته بمثلها ،ولا يمكننى تحيته بأحسن منها،
ليس لشيء سوى عجزى عن ذلك.
فوجه الرجل مملوء نورا،وبريقا وإشراقا،
وثناياه يتلألأ ضياؤها ،وشفتاه المنفرجتان فى اعتدال وتناسق ،تدلان بحالهما على أن تلك الحركات لم تكن مصطنعة.
إن فى ذلك الوجه النورانى الذى أراه لأول مرة سراً،وإن وراء صاحبه خبراً.
وما كادت صفوف المصلين تتفرق بعد انتهاء الصلاة،حتى بدأ بيننا حديث أوله حلو وأوسطه وآخره كذلك.
عرفنى الرجل بنفسه ،وكذلك فعلت .
وما هو إلا وشعر كلانا بروابط وثيقة تجمع بيننا
فكلانا ممن درس بالأزهر الشريف .
وكلانا ممن ارتبطت حياته بالقرآن دارساً لعلم من علومه .
والمفاجأة أننا تلقينا القرآن فى بعض سنى حياتنا عن شيخ واحد.
(الشيخ فتح الله أبوسماحة )
شفاه الله وأدامه فوق رؤوسنا.
ثم تبين بعد لحظات أننا من بلدتين متقاربتين جغرافيا .
وتبين أنه يعمل بطنطا مدرسا بكلية القرآن الكريم،والتى يربطنى بها سر أسأل الله تعالى أن يكون فى ميزانى وآبائى وأمهاتى وأبنائهم يوم لقائه.
ويربطني بمؤسسها وأول عمدائها الأستاذ الدكتور جودة المهدى رحمه الله حبل موصول أسأل الله ألا ينقطع أبدا.
…………..
وبعد مقدمة الحديث والتعارف عرفت سبب وجوده فى تلك الليلة بالمسجد،إذ كان فى انتظار الأستاذ الدكتور سامى هلال لحضور واجب عزاء فى والدة أحد المحسنين ممن أنفق مما آتاه الله فى بناء كلية القرآن الكريم بطنطا ،
وطال المجلس وامتد اللقاء .
وكلما طال نما التعارف وزاد الوصل،واطلع كلانا على اهتمامات صاحبه .
ومضت الليلة على أتم ما يكون .
وما هو إلا أن قلبا تعلق بقلب .
وروحا التقت بروح تعرفها .
وكأنما كانت الليلة تلك بلقائها تفسيرا عمليا محسوسا لقوله صلى الله عليه وسلم ((الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف)).
فزادت الألفة وزالت الكلفة.
وجرت مقادير حياتنا نلتقي كلما قدر الله ذلك،
وتدور بيننا أغلب أحاديثنا عبر الهاتف.
ومضى كثير من الوقت لم نلتق خلاله .
غير أن التواصل موجود وبحدود .
ومنذ أيام نشر لنفسه صورة فإذا به قد شابت ناصيته،وابيضت لحيته ،فما زاد المشيب إلا جلالا ووقارا.
وخرج علينا فى زينته القرآنية وحليته الأزهريّة مزهرا .
ولا يكاد يمضي يوم إلا وقد نشر من ثمرات مشروعه ما يسر ،
وما يحملنى على حسده أشد الحسد
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
((لا حسد إلا فى اثنتن،
رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار…….)).
…………..
ومشروع الرجل الذى صار محل حسدى يتلخص فى أنه ربما غدا أو بعد غد يُتم مع فريقه المائة الثانية من المجازين الذين حفظوا القرآن الكريم على أيديهم.
ويا لها من منقبة.
لأن الرجل فيما أحسب والله حسيبه ولا أزكيه على الله صادق النية فيما يفعل ،ولا يتاجر بالإجازات………..
………..
ومما أذكره أننى فى العام ٢٠٠٧لاحظت التجارة الحرام فى الإجازات المدفوعة لغير مستحقيها والممهورة بالتوثيق المزور والمنسوب إلى صاحب الإجازة دون قراءة ،فخطبت فى هذا الموضوع خطبة الجمعة،وانتهيت إلى أنها شهادة زور ،وأن ما يترتب عليها من المال ليس محترما لا عرفا ولا شرعا ،وقُدر أن بعض الصحفيين كان حاضراً فأذاع موضوع الخطبة ،وكتب عنه فى صحيفته ،
وتناولنى أصحاب تلك الإجازات فى ذلك الوقت بألسنة حداد أشحة ،فما التفت لكلامهم وواصلت الطعن فى أفعالهم والتنبيه إلى خطورتها،
فما زادهم ذلك إلا خبالا ،وما زادنى ذلك إلا ثباتا.
والحمدلله.
لقد راجت الإجازات فى هذا التوقيت الذى أشرت إليه رواجا عجيبا ،لدرجة أنه قدم على يوم (والله شهيد ورقيب وحسيب ؛
أقول قدم على من يعرض إجازتي دون أن أقرأ عليه والله ولو آية واحدة من القرآن الكريم،
كل ما كان على فعله يومئذ هو أن أدفع إليه اسمى كاملا ليدونه فى الإجازة،فامتنعت وطردته من مجلسي ساعتها.
………..
وما فعلت ذلك فيما أظن إلا غيرة على كتاب الله عز وجل.
وظلت مراقبتى لأمر الإجازات قائمة،لدرجة أننى أنبئت ذات يوم عن فتاة تقوم بتصحيح تلاوة القرآن للنسوة فى مصلى النساء،فاستدعيتها لأسمع منها بعض ما تحفظ من القرآن الكريم.
فلم تعجبنى تلاوتها ولا ضبطها لأحكام التلاوة،فسألتها عن محفظها فقالت إنه الشيخ عبدالحميد منصور رحمه الله،وقد كان من أعلام القراء بالاسكندرية وكان من طبقة الشيخ محمد عبدالحميد عبدالله ،والشيخ إسماعيل راشد والشيخ عبدالرحمن مرسي والشيخ إبراهيم السلامونى والشيخ على رحال والشيخ عبدالحميد عنتر والشيخ البدرى المالكى والشيخ حبشى والشيخ الخيال والشيخ فاروق والشيخ الصردى .وغيرهم رحمهم الله جميعا.
فاتصلت بالشيخ عبدالحميد منصور والذى كان شيخا لمقرأة مسجد العمرى وسألته عن تلك الفتاة،فقال نعم تحفظ على ،
فسألته هل أجزتها بالإقرأ؟
فقال لا .
فدعوت له بخير وأطلعته على خبرها وما كان منها ،ومنعتها من الإقراء حتى تتقن هى قراءتها أولا ،ثم تجاز .
ولم أعرف عنها شيئا بعد ذلك.
وحمدت ربي على توفيقه لما وقر فى نفسى أنه خير.
ثم تراجعت هجمة الإجازات المزورة ،لكنها لم يُقض عليها قضاء مبرما ،ولم يمتنع عنها المتربحون منها امتناعا تاما.
لكن وعن يقين أزعم أن حال الإجازات اليوم والتحرى فيها خير مما كان من عشرين سنة.
…………
والصديق الدكتور مصطفى الحلوس ورفاقه من أساتذة الإقراء وشيوخه ممن أظن فيهم خيرا.
ولم يكن مشروع المجازين المائة ليقترب من نهاية نسخته الثانية، على هذا الوجه المريح والمطمئن بحمدالله،إلا إذا كان مصحوبا بصدق النية،وإخلاص العمل لله تعالى.
……………
لقد مر بى فى حياتى معلمون كثر،تعلمت على أيديهم ،أذكر بعضهم،وتغيب عنى أسماء بعضهم،
أما الذين تعلمت على أيديهم القرآن،فيستحيل أن أنساهم مهما تطاول الزمن.
ولا أظن أن هذه حالى وحدى ،
بل هى حال من تلقى القرآن عن شيخه متى كان وأين كان.
وأجدني مفتخرا وأنا أناديه وأناجيه يقولى له (سيدنا)
فقد استحق أن يتوج بهذا اللقب عن استحقاق.
ولست وحدى فكل ينادى ملقنه القرآن بهذا النداء الكريم المنبئ عن مقداره.
………….
وقد يحدث أن تقع على أسماع مشايخنا الكرام القراء أو بعضهم كلمات ثقال تفت من عزيمة بعضهم ،أو تطعنه فى محل يسوءه ،
ونحن بشر ننشط أحيانا ،وأحيانا لا نكون كذلك .
ونتحمل أحيانا وأحيانا لا نكون كذلك .
ونتهم أحيانا فيبرأ من يبرأ وتلتصق التهمة بمن تلتصق.
وقد تؤثر هذه العوامل أو بعضها على المجيزين فتحدثهم أنفسهم بمفارقة الإقراء ،وهجر الطلاب .
هو أمر نحسه أحيانا من الحديث مع المجيزين
ووصيتي إليهم ألا يستجيبوا لهذا الوسواس الخناس.
وأن تقوى عزائمهم فى مواجهة هذا الطائف منه.
وعلى الله قصد السبيل.
وأعينكم بالله العظيم وسلطانه القديم من جائر السبيل .
وخير ما يسرنى من أخبار صديقي الدكتور مصطفى الحلوس أطال الله بقاءه وبارك عمره ونفع به،
أنه لا يفرح وحده بتخرج طالب فى مقرأته وإجازته ،
بل تراه يصدر منشوره ويبدأ بفعل الأمر
(شاركونا الأفراح)
وإنى لأدعو ربى أن تمتد هذه الأفراح دنيا وآخرة ،
وألا تنقطع أمدادها ولا أنوارها .
وهنيئا لقوم نسبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل فجعلهم من أهله كما جاء فى الحديث الشريف
((هم الله الله وخاصته)).
فشرفنا اللهم بصحبتهم وخدمتهم .
وإلى لقاء مع المائة الثالثة من المجازين
وعساه يكون قريبا بإذن الله.
……………
وهنا يطيب لي أن أحكى نادرة لرجل تألمت لما أصابه ولعل الله تاب عليه:-
بلغنى عن رجل ممن يقرئون القرآن ببعض المعاهد أنه أراد مفارقة هذه المادة إلى تدريس غيرها،وإدارة المعهد ترفض،فرفع أمره إلى المنطقة الأزهريّة بمحافظته التى كان يتبعها ،وهى مجاورة لمحافظتنا ،فرفضت المنطقة طلبه،فرفع شكواه إلى شيخ الأزهر يومئذ الشيخ جاد الحق رحمه الله
وقد كانت عادته أن يصطحب البوستة معه إلى بيته،
فإذا فيها هذه الشكوى الطويلة
فكتب رحمه الله التأشيرة التالية:-
(هذا رجل أكرمه الله بحفظ القرآن،وجعل رزقه مرتبطا به،وهو يريد ألا يكون من أهل القرآن
فلا تجعلوه من أهل القرآن
أوافق على طلبه.)
وما أن وصل الرد صاحب الشكوى وقرأه حتى انفجر باكيا،طالبا العودة للتحفيظ،
ولكن
سبق السيف العزل.
………
فيا أهل القرآن
انتبهوا لئلا تستدرجوا.
….
جعلنا الله وإياكم من خيار وارثيه.
This site is protected by wp-copyrightpro.com