وفى قريتنا العامرة ووصلاًبما سبق من حديث عن مسافرى العراق رأيت من أحوالهم ومن مظاهر التحول الاجتماعى فى حياتهم وحياة أهليهم والناس من حولهم ما هو جدير بالتسجيل ،فمسافرو العراق على الرغم من بساطة أغلبهم وسهولة التأثير عليهم ،وعلى الرغم من مخالطتهم للشيعة (معتدليهم وغلاتهم )ولمذاهب أخرى كالصابئة والأزيدية وغيرها من المذاهب ،إلا أنهم لم ينقلوا إلى بلادهم شيئاًمن مظاهر هذه المذاهب ،فذهبوا وعادوا كما هم دون تلون أو تمذهب أو ادعاء ،كل مافى الأمر أن بعضهم كان يقص مشاهداته متعجباً أو مستفسراً أو راوياً دون كبير وقوف عند تلك المرائى التى رآها ،بخلاف غيرهم ممن سافروا إلى وجهات أخرى جلبوا على أنفسهم وعلى الناس أقوالاً ومذاهب وتصرفات مغايرة لما رأوا عليه آباءهم وجادلوا الناس فيها جدالاً ساخناً،وصار الواحد منهم داعية لهذا المذهب أو ذاك ،يجادل عنه ،ويحمل أقاربه عليه ،ثم يتعداهم إلى الناس يحاول حملهم على مايراه،وبدأ تصنيف أفعال الناس ،وبت تراهم يرمون الناس بالابتداع مرة وبما فوق ذلك مرة ،من نسبتهم إلى الفسق أو إلى الجاهلية ،حتى وقع الناس فى حيص بيص ،وأوتوا مع هذا الجدل صفاقة وجه لا توصف وسلاطة لسان لا تحتمل ،ونظروا إلى الناس مرةباستعلاء ، ومرات بازدراء،وانشقت هذه المذاهب على نفسها ،لأسباب كثيرة ،أول هذه الأسباب مادى ،وثانيها نفسى ،وثالثها المنازعة على من يقود الجماهير ،وانقسمت الفرقة الواحدة إلى فرق لكل منها اسم ومسلك ،وكل فرقة تتهم أختها ،وهم جميعاً يقومون على أمر الناس ولا يحسنون القيام على أمر أنفسهم ،وتنافست هذه الفرق فى اتخاذ المساجد (الزوايا)لأنفسها ولا تحتمل رؤية مصل ٍ فيه من فرقة أخرى ،وإذا بالجامع الذى كان يجمع الناس على رأى واحد وفكرة واحدة وخلق واحد ،يفقد هذه الميزة ،بعد انتشار الزوايا انتشاراً فرّق الناس وباعد بين أجسادهم وقلوبهم وأفكارهم ومشاعرهم ،وهو الأمر الذى يستحيل علاجه الآن دون آثار عالية التكلفة فى كل شيئ ،والذى أراه وأعتقده أن كل فكرة تقسم الرأى والناس وتجعل من الناس أشلاء متنازعة فكرة خطرة ومرفوضة ،وأعلم أن مثل هذا الكلام سيوغر علّى بعض الصدور ويغير بعض النفوس وسيجعلنى مضغة فى أفواه من لم يرض بما أقول ،ولست أعبأ بمثل هذا ،فهو الرأى الذى أراه ،وهى المشاهد التى أراها كائنة فى حياة الناس بعد أن لم تكن من قبل ،
وفى هذا الجانب يُحمد لمسافري العراق أنهم لم تتغير أحوالهم الدينية ولم يجلبوا على الناس أسباب الخلاف ومظاهره.
وقد شاع أمر هؤلاء شيوعاً كبيراً حتى أرهقهم وأرهق الناس والدولة جميعاً،ومن أوتى منهم بسطة فى الرزق استطاع التأثير أولا على أسرته فحملها على مايريد ،وكما يقولون (أطعم الفم تستحى العين )ثم بدأ فى حمل غيرهم عن طريق تولى بعض الأعمال الخيرية أو الإنفاق على بعض المعسرين ،فاستقطب هؤلاء الجماهير وأحسوا تأثيرهم وأحبوه ،فقد أضاف إليهم معانى نفسية واجتماعية لم يتصورها أحدهم من قبل ،على أنهم وللحق ليسوا سواء ،
ولا يمكن إنكارتأثير رأس المال فى القرار وفى تغيير الأفكار ،ليس على مستوى الأفراد فقط ،بل على مستوى أوسع حتى إن هذا التأثير تبدو مظاهره فى قرارات الدول حتى الكبرى منها ،ولم يعد سراً أن يذاع أن الاقتصاد صار المتحكم فى مصير العالم ،سواء جاء الاقتصاد على صهوة الرأسمالية أو غيرها من المذاهب الاقتصادية التى تتبدل من حين لآخر .
ودون إطناب يخرج بنا عن موضوعنا وطريقنا فى التناول ،فهذا أخطر الآثار التى أثارها المسافرون إلى غير العراق ،وهذا فيما أرى وأتصور أخطر مظاهر التحول وأكثرها تأثيراً وأثراً.
على أن هذا المظهر لم يكن وحيداً أو منفرداً فقد صاحبه مشهد آخر ،ألا وهو أن المسافرين إلى العراق وغيره لما كثرت أعدادهم اضطر الناس فى الريف وغيره إلى إخراج بناتهم لأسواق العمل لملء الفراغ الموجود فى الأيدى العاملة ،وبدأ خروجهن أولا للعمل فى بعض المحلات والصيدليات ،ثم اتسع الأمر فخرجن لبعض الأعمال الأخرى كجمع المحاصيل والفواكه والخضر فى الأراضى ،ثم كعاملات فى المصانع ،ثم تطور الأمر فبتن يعرفن الطريق إلى الأعمال الشاقة ،ثم زادت أعدادهن زيادة ملحوظة فى الوظائف الحكومية ،وكان الخروج أولاً طلباً للرزق ،ولسد الفراغ فى أسواق العمل ،كما حدث تماماً فى أوروبا أعقاب الحرب العالمية الثانية عندما أكلت الحرب رجالهم وأعاقت أعداداً كبيرة منهم ،وعليه خرجت النساء فى أوروبا لأسواق العمل أيضاً،والجامع بين ما كان فى أوروبا وما كان عندنا قلة الأيدى العاملة من الرجال فى ظرف زمنى معين .
وأدى خروج النسوة إلى جرأتهن فى الخروج والتوسع فى تبرير أسبابه ،وإلى تمدد النسوة فى مساحة القرار وأحياناً إلى انفرادهن بالقرارات الهامة فى حياة الأسر ،وهو الحال الذى لا يمكن إنكاره ومحو آثاره ،
واستشعرت بعض الأسر داخل العائلة الواحدة أن جهدها ومالها يوزع على كل العائلة وفى ذلك من الغبن ما فيه ،إذ يعمل البعض ويكسب ويسافر ويرجع ويدخر ويتوسع فى الإدخار ،والبعض الآخر إما أن يكون أقل إدخاراً أو أضعف كسباً أو لا يكسب أصلاً فيعيش عالة على المسافر ،فيتم الزن عليه من زوجه وولده بضرورة التقسيم والعزلة ،وبتنا نرى البيوت الكبيرة تنشطر وتتفتت فتنقسم الدار إلى دور ،وتنقسم الأسرة الواحدة إلى أسر متعددة ،ويتعذر على بعضهم أحياناً أن يعزل فى سلام ،فيستعدى أهله ،وتطفو مظاهر الخلاف على السطح ،وتستفحل الأمور وتتسع ويستدعى المراضى ،وتُسمع الحكايات وتتسع الروايات ،وعند الخطاب كلٌ يلبس أثواب المظلوم المنتهب ،وبعض المصلحين ليس بالحصيف الخريت فينخدع ،ثم يحكم فلا يكون موفقاً فينفض المجلس وقد قرر حكماً ملزماً،غير أن الحكم هذا جلب من التدابر والقطيعة فى الأسرة الواحدة ما يصعب تغييره،وكل من يشعر بالمظلومية صادقاً أو كاذباً أو محتالاً ينقل هذا الشعور إلى زوجه وبنيه ،وبعض المراضى قد يكون صاحب هوى فيحكم لطرف ويقضى له بغير الحق ،ويجرع الطرف الآخر مرارات متتابعة لا يسيغها ولا يستطيع لفظها ،فهو متكلم وباسط لسانه بالسوء فى أهله وفى المراضى .
ولم يقتصر أمر العُزلة على دار دون دار وعلى أسرة دون أسرة ،بل عمّ هذا المصطلح ،وسلك الناس سبيله سراعاً حتى لو رأيت اليوم عائلة لم يقع فيها التقسيم وتفتيت الملكية والأسرة لكان أمرها مستغرباً،وهذه أيضاً كانت من ضريبة السفر التى تحملتها الأسر والمسافرون .
والبقية تأتى فى المنشور القادم بإذنه تعالى .
بقلم- الدكتور عبد الرحمن نصار
أستاذ التفسير ووكيل مدرية أوقاف الاسكندرية
This site is protected by wp-copyrightpro.com