عام هجري جديد بدأنا تقليب صفحاته، متفائلين به عام خير وسلام علينا وعلى وطننا وأمتنا والعالم، وقد أعدت صياغة المقدمة حين تذكرت أن لفظ (عام) يفضل لفظ (سنة)؛ لأن دلالة السنة في العربية تنحو إلى (السلبية) وأكثر ما يعبر بها عن (المحل والفاقة)، كالفرق بين التعبير بالمطر والغيث، فالمطر كما ذكر الجاحظ اقترن ذكره في القرآن (بمواطن العذاب)، وكانت العرب تعدل عنه إلى الغيث.
(مالكم بالطويلة)، فقد قررت ارتداء عباءة (الناصح)، وما أثقلها، لكن المرحلة تدفع كل صاحب تجربة أن يعبر عنها للآخرين، وأن ينبه إليها لعلها تنفع، فمن مشاهداتي رأيت بعض النماذج العصامية المشرفة من أبناء الوطن، يجبرون الظروف على احترامهم، ويخضعونها لإرادتهم، فبعض طلابي في الجامعة يعملون مساء، موفقين بين العمل والدراسة، دون أن تتنازل مستوياتهم الدراسية عن طموحاتهم، ولهم أرفع (عقالي) لأنهم أدركوا قيمة الوقت واستثمروه فيما ينفعهم.
المؤسف أن هؤلاء قلة، وغالب الشباب تسحقهم مقولات (كبر راسك) (ايش لك وايش للشقا) وتضيع أوقات بعضهم دون فائدة، والمؤسف أكثر أن بعضهم ـ رغم فراغه ـ تسرقه السنون وهمته الباردة فيتخرج بمستوى متدنٍ، أو تخصص يحول بينه وبين الكثير من الطموحات، ويظل يندب حظه في المجالس وعبر الشبكات الالكترونية، عالة على أهله ومحبيه، وعالة على الوطن.
ما يجب أن يدركه شباب اليوم بعد القرارات الوطنية الأخيرة، أننا متجهون إلى التحول الشامل اقتصاديا وفق رؤية 2030، وأن زمن أبوة الدولة قد ولى، وأن المجتهد المثابر وظيفيا ودراسيا ومجتمعيا هو الناجح، ونحن ولله الحمد في مرحلة لا تزال فيها الحياة مليئة بالفرص، أبواب الرزق لا تنحصر في (العمل الحكومي)، وبلادنا زاخرة بالخير، ولو كانت غير ذلك لما هجر ملايين الرجال والنساء بلدانهم وعاشوا بيننا، يواصلون الليل بالنهار في الكسب، بعضهم باع ممتلكاته هناك ليعمل هنا، ولو تأملنا شباب العالم الأول، لوجدناهم في استنفار دائم للعمل، فأيام الأسبوع عندهم كلها مكرسة للعمل، ولا مجال للسهر والترفيه إلا في يوم الإجازة اليتيم، فلا سبيل آخر للحياة الكريمة والإيجابية وبناء الذات إلا سبيل العمل.
وما دمت مرتديا عباءة الناصح، فلن أضعها حتى أعرج على موضوع الثقافة الاقتصادية، في جانب (التوفير والادخار)، فعبارة (اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب) (كاذبة)؛ فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، بل يجب أن نكرس ثقافة (العمل والادخار) في فكر أبنائنا، وأن نوجههم إلى (تعدد الخيارات) في متطلباتهم، وأن الأمر لا يتوقف على صنف واحد يغالي فيه التاجر لارتفاع الطلب، فلو تبنينا ثقافة الخيارات المتعددة لتراجع الجشعون، وتواضعت الأسعار اللامبررة.
إني مستبشر بثقافة (المقاطعة) للمنتجات المبالغ في أسعارها، خاصة ذات الجودة المتدنية، فالمقاطعة كفيلة بأن تحد من الغلاء الفاحش، والأعمق أن يراجع التاجر أو مقدم الخدمة جودة ما يقدمه للناس، فمقولة (الغالي سعره فيه) صارت (غشاشة)، وقد أغرقت أسواقنا بمنتجات رديئة لا تنقص عن أسعار المنتجات ذات الجودة العالية إلا كما تنقص (لمبة الشاحن) من فاتورة الكهرباء!
أخيرا، تذكر أن دأب التجار على امتصاص أقواتنا ينبع من إحجامنا عن الفعل، ومن الاستسلام لرغباتهم مكتفين بالتذمر في المجالس والمواقع، فلو عدلت عن كوب القهوة المسعر بـ 17 ريالا، إلى المسعر بـ 5 ريالات لفكر الباعة مليون مرة قبل أن يكتبوا قوائم أسعارهم، وقس على ذلك في كل هذا البحر المتلاطم من الجشع والغلاء اللامبرر، الذي تعجز وزارة التجارة والبلديات وجمعيات حماية المستهلك عن ملاحقته، وسلامتكم.
الكاتب : أحمد الهلالي
This site is protected by wp-copyrightpro.com