يجتاحني الشوق إلى الماضي البعيد ، الذي غرس في روحي الذكريات الجميلة،
من زمن بسيط مفعم بالنقاء والعفوية ، كان فيه مذياع جدي المسيطر على الكيان الإعلامي في بيتنا.
كنا صغاراً نجلس بجانب جدي نستمع إلى صوت المذيع وهو يقرأ نشرة الأخبار ، ولا نفهم ما نقول . وكان جدي رحمه الله يجزرنا بصوت مرتفع لكي نسكت ليستمع لنشرة الأخبار ..
وكانت جلسة بعد صلاة العصر ، هي بمثابة إجتماع عائلتي مع القهوة والشاي في فناء منزلنا الذي يغمرنا حبا ودفئا في أروقته الصغيرة الطينية وزخرفته المنقوشة بالألوان الطبيعية المتعددة.
وعندما يأتي الجيران وأصدقاء جدي للزيارة في موعد معتاد بعد صلاة العصر ، يطلبون منا أن نذهب بعيدا للعب حتى لا نزعجهم في حواراتهم ومناقشاتهم على الأخبار والأحداث الساخنة عبر الأثير ، والجميل الذي خلد في أذهاننا هو الولاء والدعاء بفطرية صادقة للوطن الغالي وقيادته بالعز والتمكين على الشريعة الإسلامية الطاهرة.
ونحن نسمع تلك الدعوات غالبا بعد كل خبر وطني من مذياع جدي الذي ما زال صوته في وجداني عبر أثير ذلك الزمن الجميل.
وكانت المسلسلات الإذاعية والبرامج الحوارية المباشرة مع جمهور الإذاعة لها حضور بهي … وكنا نسرق مذياع جدي خلسة نستمع إلى أناشيد الأطفال مع خوف وحرص ومراقبة أن لا يرانا أحد … لأن مذياع جدي له قداسة خاصة عن فضول الأطفال ، لكي لا نعبث أو نكسر ذلك المصدر الإعلامي والاختراع المبهر ..
كنا نقلب ذلك الجهاز في جميع الإتجاهات ربما نرى من يتحدث ونتعجب كيف يأتي ذلك الصوت المثير للجدل.
أتذكر أجتماع أفراد القرية عندنا لكي يستمعون إلى أسماء الناجحين من معهد إعداد المعلمين ، وسط جو بديع من الألفة والمحبة وزخم التبريكات والتهاني .
ومع أنني لا أنسى النهاية المأساوية لمذياع جدي ، والتي كانت على يدي عندما ذهبت العائلة في المشاركة والمباركة للجيران بالمولود الجديد ، بدأ البحث مع إخوتي عن مذياع جدي بكل جد واجتهاد في كل مكان دون كلل ولا ملل… لقد وجدناه ! إنه تحت سرير جدي الحديدي ، كان الفرح والخوف يسكننا في وقت واحد.
بدأت احرك مؤشر القنوات للمحطات في جميع أنحاء العالم .. وسط معارضة من إخوتي كل واحد يرد أن يقوم بالمهمة لأنه خبير ،
وبدأ الصراع بيننا كل واحد يسحب المذياع المسكين الذي لا يملك حولا ولا قوة.
وسقط المذياع أرضاً وخر صريعاً وما زال يبث على تعب ودون وضوح الصوت ، وقد تهشمت شاشته البيضاء .
عندها بدأ كل واحد يسوق الإتهام للآخر بصوت مرتفع وخوف شديد .
وفجأة عاد الأهل ولم نعلم وكان المنظر مدهشا لهم والمذياع يلفظ أنفاسه الأخيرة ، أقر إخوتي بالإجماع أنني المتهم الوحيد في تلك الجريمة ، والحمد لله على كل حال فقد نلت عقابا يليق بمكانة مذياع جدي العظيم مع نبذ وشذب هذا التصرف المشين.
رحم الله جدي كان مذياعه المنبر الوحيد الذي يتحفنا بالجديد والمفيد..
بقلم الأستاذ / عمر بن عبدالعزيز الشعشعي
This site is protected by wp-copyrightpro.com