جائني إتصالها…بصوتها المخملي تستشيرني وتقول لي ( هل أستمر معه أم أطلب الطلاق)
أجبتها : أنا مستشارة أسرية ممن يطلق عليهم المسمى (لايف كوتش) مهمتي تقتصر على الأخذ بيديك وتوجيهك ومساعدتك في رسم القرارت , وليس اتخاذها عنك وتحديد مسارك في الحياة … أنتي صانعة قراراتك .
لم يكن هذا الإتصال الأول من نوعه , سبقها زيارتها لمكتبي الخاص بلإستشارات الأسرية , شائت الظروف أن تجمعنا فأعطيتها بطاقة العمل فتواصلت معي , أخبرتني بقصتها فهي في العقد الثالث من عمرها مطلقة أنتهى زواجها الأول بأثقل الجروح وأطفال في عداد اليتامى ووالدهم على قيد الحياة وتعسرت حياتها كثيرا.ثم حدثتني عن الأخر !
كانت على أهبة الإستعداد للخروج إلى بعثتها في بلاد الأفرنجة بعد طلاقها بمدة غير وجيزة , ولأن عملها في إحدى الدوائر الحكومية يتطلب إستقبال المراجعين في عيادتها , أستقبلته مع إبنته وهي لاتعلم لعبة الأقدار كان يتردد كثيرا عليها للعلاج الطبي فتارة لوحده وتارة أخرى مواعيد ومراجعة أولاده سألته بأدب مبالغ فيه بحكم أنه يعمل في نفس الدائرة الحكومية ويستطيع متابعة أوراقها أن يتابع مستجدات أوراق بعثتها فخصها بالإهتمام , وتوالت المكالمات الهاتفية بخصوص أوراقها , الا أن فأجاها يوما وعرض عليها الزواج , وبالرغم من دهشتها الفائقة شرحت له ظروفها فلم يكترث وأصر على طلبه وواصل اقترابه منها.
ترددت كثيرا وأرتبكت , فالرجل ذو مكانة علمية ضخمة وإجتماعية وصاحب مركز مرموق ومن عائلة معروفة وغنية جدا وكلامه جميل , ولكنه أيضا مطلق وله أولاد فكيف يجتمع اثنان في منزل واحد مع كل هذا العدد من الأطفال !!!
ثم تذكرت كيف أنه غير محبوب من سائر العاملين في مركزها, شعرت دوما بأنه زير النساء .. وكيف ولمه واين ووالخ من التردد والتساؤلات … احتارت فشاركت أهلها مطلبه فرحبوا به وأبدوا إستعدادهم لمقابلته . فأخبرته برغبتهم. وترك في نفوسهم إنطباع جميل بعد زيارته , وقررت أن تمنح نفسها فرصة معه .فرست على شاطيء الواقعية وسلمت بضرورة الزواج .
وتوالت الأحداث سريعا فخطوبة ثم عقد القران ثم الزواج .. بسيط ومختصر بالأهل والأقارب فقط . وطارت الى بلاد العم سام .
بالنسبة لبطلة قصتنا …… لم يكن وقع الزواج الثاني بأفضل من قبله , أكتشفت لسوء حظها تناقض عظيم في شخصه, وماأكثر الأقنعة لديه فيضع القناع الخاص بالموقف الساري ,رجل سادي متعدد المزاجات , لم يصنف كمريض نفسي أو ما شابه ولكنه كذلك بالنسبة لها … لم يتقبل تعلقها بأولادها , وبات يصطنع المشاكل ويضع العراقيل بدون أسباب , يضحك ساخرا من حديثها ويتهمها بعجرفة بنات ( اليومين دي ) , يرفض الخروج للأماكن العامة في صحبتها , وأدمن إبتكار أسباب وحروب وهمية معها ليغادر المنزل لساعات قد تمتد لأيام … تستمر الإهانات اليومية حتى أصبح الشتم والسباب هو أسلوب الخطاب النضالي …. وماأكثر إهانته لها بأنها من طبقة أقل لذلك يصعب عليها التأقلم معه وتفهم إحتياجاته !!!!
تتسع الهوة ويزداد الأسى ولا تملك صديقتي أسلحة غير الصمت والصبر والدموع كلما ردد بطل قصتها في خطبه العظيمة ومحاضراته السيريالية معها ( أنا لست كغيري من البشر ) .فيتعمق شعورها بالحزن. فينتهي الأمر بإلقاء أوامره ( شيلي أغراضك وروحي بيت أهلك) فتعود كل مرة تجر أذيال الهزيمة والإنكسار لأهلها حتى يشتاق او يستيقظ من غفوته أو يعود من احدى سفراته المتكررة اللتي قد تطول ..ويمنعها من الإتصال به خلالها. ولا تعلم صدقا كم من مرة طلقها شفهيا ….
غاب عنها شهران لاتعلم عنه فيهما شيئا , كانت تقضي ايامها تدعو الله وتشكي إليه أمرها وتبكي بحرقة إلى أن جائها في يوم صحو وأخبرها أنه أخذ أجازة تفرغ من العمل وسنذهب معا الى ( امريكا) لمدة سنة…. رحبت بالفكرة ظنا منها أنها أخيرا ستكون معه فقط , فلا أولادها ولا أولاده ولا أهلها أو أهله ..فلربما تسمح لهما ظروف الوحدة والغربة أن تقترب منه وتحتويه ويشعر بحنانها فيبادلها إحتياجها.
وحزمت الأمتعة وأنطلقا بعيدا عن زحام الوطن , غادرت بيتها وكل من تحب إلى واشنطن ثم إلى ( سياتل) ( محطتها الأخيرة ونقطة إنطلاقها الجديدة) ….. ولكن هيهات هيهات أن يتغير الحال ..تغاضت عن خياناته ونزواته آملة أن تستقر سفينته في مرفئها وحدها في النهاية … أعانها على الأمل في ذلك مأبداه دائما من حرص غريب على ألا يفقدها رغم شروده أحيانا مع الأخريات . ساءت الأمور أكثر فأكثر ومرت الأيام والأسابيع ومازالت الغيمة السوداء تواصل التربع على أفق حياتها , ومع أول بادرة للعنف من بطل قصتنا حينما مد يده وصفع صديقتي ….. تحركت مشاعر الغضب داخلها .. وطلبت منه أن تحجز له أول طائرة لتعود بها إلى أرض الوطن .
وطالت فترة الجفاء الحانق وحقق لها مأرادت ولم يتحمل عناء الاعتذار او محاولة لمنعها من السفر والبقاء معه… ولم تستطع النوم وجائني حينذاك اتصالها .. فغدا موعد إقلاع الطائرة وستعود وحيدة ..
وأستيقظت من النوم مثقلة . فاليوم موعدها مع الرحيل ! وتناولا إفطارهما والصمت الثقيل مطبق عليهما . وأرتدت ملابسها بعناية وقفت أمامه وقالت له ( طلقني يا فلان) ….. أطال النظر إليها وألتزم الصمت .. فأعادت عليه ( طلقني قبل ماأمشي يا فلان ) ..فحمل الحقيبة من يدها .. وترك المنزل متجها للسيارة . وعند الوداع في منطقة المغادرين أعادت الى مسامعه طلبها فأجابها ( لمن توصلي هناك خلي أحد من أهلك يكلمني) ….
عادت إلى منزلها وضمت أطفالها الى صدرها وأجهشت بالبكاء ..وأخبرت أهلها بما تريد وحققوا لها ماأرادت . وأغلقت صفحة أخرى مؤلمة من حياتها .كان بالنسبة إليها أول قرار سياسي إقليمي تتخذه وتصنعه . تعودت الرضوخ لأهلها إرضاء لهم .ولأزواجها خوفا منهم , عودت نفسها التأقلم على القليل واليسير . لم تكن المدة الزمنية اللتي قضتها في زواجها منه طويلة ولكنها كانت ثقيلة ومليئة بالأحداث السيئة .. نعم كان كاتبا محترفا ورجل حديث بارع .. يحمل براءة إختراعين من الولايات المتحدة الأمريكية , طموحا لعمل عامود في إحدى المجلات المعروفة باسم (نادي الرموز) .يوعدها بالحب والأشعار وأن يعوضها عما قاسته من أمور في زواجها الأول .كان يملك ملكة الحفظ السريع حافظا نصف القران , واعي للفقه والحديث. يحفظ كامل أغاني فيروز وأم كلثوم واصالة و جورج مايكل وكل مطرب جديد أو قديم , كان البخل خليله , والشح أنيسه , والتطاول على كل من يخالفه الرأي مذهبه ,يتلون مع كل ضحية جديدة فيرتدي ردائها ويتابع ماتحب وتشتهي فيشعرك أنه لك وحدك , وعند غضبه ينتقم بعنف فيجردك من كل شي ويشعرك أنك لاشي دونه ! إزدواجية أرهبتني ..
ومات كل شيء بيننا ..
وقابلت صاحبة القصة بعد سنتين ونيف من بداية تعارفنا . زاهدة في الدنيا طموحة .. تشعر بانكسار خفيف في عينيها ومسحة حزن دفين تكتسي ملامح وجهها الملائكي , فأيقظتني من تآملاتي بحديثها القوي كاريزما عالية كأنما المآسي خلقت منها شخصا أخر … أخبرتني بانها قابلته صدفة وأمتنعت عن التحية وأشاحت بوجهها عنه ..فكتب لها شعرا يقول فيه
أيا من كنت تروم وصالي واليوم بوجهك عني تشيح
وصرت تذم مني مقالي ومن قبل كان منك المديح
مشيت وحار مني سؤالي أبنظرة يبادلني بها شحيح
ماذا فعلت بنا الليالي لنقسو ويظهر منا القبيح
عد كما كنت حلو الخصال ولاقني ببسمة .. أيا ملي
. وحدثتني عن محاولاته المستمرة للتواصل وعرضه الزواج المسيار !!! وكتابته لها حتى اليأس ثم أختفى من جديد.
قلت لها بوجل : ( شعره قوي يبين انه مفتقدك ونادم يعني كان ممكن توافقي وترجعيله )… نظرت إليا نظرة قوية ألمتني وأعيتني .. وأجابت وهل أنقذ الله إبن نوح لمجرد أنه إبنه.. وهل هدى الله عم الرسول الذي أحبه لمجرد أنه عمه !
وساد الصمت الثقيل بيننا …………..
بقلم : نادية بخش
This site is protected by wp-copyrightpro.com