د. عبد الرحمن نصار
استاذ التفسير بالازهر
ووكيل وزارة الاوقاف بني سويف
وفى قريتنا العامرة بإذنه تعالى رأيتنى وأنا أستيقظ لصلاة الفجر صبياً ،فى الشتاء والصيف ،ولم تكن اليقظة فى هذا الموعد لمجرد الصلاة ،بل اقترنت مع الصلاة علة أخرى ألا وهى جلب ماء الشرب للبيت ،فلم تكن كل البيوتات فيها حنفيات ،بل بيوتات قليلة ،وعلى من ليست عنده حنفيات فى بيته أن يقضى وطره ويأتى بما يحتاجه من أماكن معلومة بقريتنا العامرة بإذنه تعالى ،منها الحنفيات العمومية التى كانت منتشرة ببعض مواقعها ،مثل التى كانت تجاور فرن المجلس المحلى ومنزل المرحوم مسعدالفخرانى وعلى الترعة قريباً من مدرسة نضرة ،وعلى محطة القطار وعند كوبرى السكة الحديد ،وأماكن أخرى ،وبعض الناس كان يأخذ ما يكفيه من مياه الشرب من المساجد ،وفى ذلك الوقت المبكر من اليوم تشعر بروحانيات عجيبة ،فأغلب الناس نائمون ،والجو مملوء فى تلك اللحظات بالنسمات العليلة ،ومقترفوا السيئات لم يجترحوها بعد ،فما زالوا فى سباتهم ،لم تكن الأجواء تعرف فى تلك اللحظة المبكرة من اليوم لوثة العصيان ولا وجوه العصاة ،وإنما كل شيئ فى بواكير اليوم فى انسجام تام مع الفطرة السليمة النقية ،فالوجوه التى تلقاها فى طريقك إلى المسجد أغلبها من المسنين الذين تتردد على ألسنتهم تسابيح بصيغ مختلفة ،فأنت تسير فى ليل تتلألأ فيه النجوم ،إن لم تكن نجوم السماء ،فهؤلاء الأشخاص الذين لا يقلون نورانية عن النجوم نفسها ،ومع المسنين تلحظ طائفة من الشباب بعضهم قام لما قمت له ،وبعضهم قام بقصد السفر ليدرك أول سيارة خارجة من القرية إلى حيث يريد السفر،وهناك أصوات عالية وعلوية تملأ أصداؤها القرية ،ذلكم أنه فى تلك الحقبة البعيدة كانت العادة الغالبة أن تفتح المساجد أبوابها مبكراً ،وتقوم بتشغيل الراديو على الإذاعة الخارجية التى تنقل صلاة الفجر ،ومعها تنتقل القلوب من ظلمات إلى أنوار ،وتنتقل الأبدان من مضاجعها إلى مساجدها ،فالقرآن يتردد وبصوت مسموع وفيه من الطرب والخشوع وجودة الصوت وإتقان القراء ما يأسر المستمع أسراً،ويقيده بقيد من النور لا ينفك عنه ،فإذا بعناصر الإجادة كلها مجتمعة فى القارئ لقرآن الفجر ،وإذا الاستعداد الكامل لمن المتلقى متوفر ،ولم نكن نسمع الشكوى التى يجأر بها الناس اليوم من أصوات الميكروفونات التى تداخلت تداخلاً شديداً حتى بات بعضها يشوش على بعض ،وحتى لا يكاد المستمع من شدة تداخل الأصوات يعى ما يسمع أو يميز ما يقرأ ويتلى ،فإذا الذى استعذبه الناس قديماً،صار وسيلة إزعاج اليوم ،وإذا قضى القارئ ورده من القرآن الكريم ،استمعت إلى ابتهالات تشق مع الأجواء القلوب ،وإذا بالهيام يزداد كلما صدر من المبتهل (قرار وجواب )فتصدر تأوهات العاشقين التى تستخرج من أفواههم أعذب كلمات الثناء على الله عزوجل ،ثم تسمع أصواتاً كأنها تستمطر رحمات الله وتناجى الملائكة من شدة عذوبتها وطلاوتها وحلاوتها وهى تردد كلمات الآذان بل تردد تلك الألحان العلوية التى تدعو ملبيها إلى خُلد لا يبلى ،ثم يفصل الناس أصوات الراديو ويؤذنون على التوقيت المحلى لقراهم ،إذ ليس توقيت القاهرة الذى يؤذن فيه مؤذن الراديو التوقيت الثابت لكل البلدان ،ومع التفاوت الواضح بين الصوتين إلا أن صدور وقلوب المستقبلين على استعداد لاستساغة أى صوت وقبوله ما دام ينادى لصلاة الفجر ،لقد كان الجمال يلف كل شيئ ،القائم للصلاة ممن تتجافى جنوبهم عن المضاجع مستعد لبذل أى شيئ لإدراك تلك اللذة الإيمانية التى يحسها مع عدم قدرة بعضهم على التعبير عنها ،والمساجد بما تضمه بين حوائطها من روحانيات يسبح فيها العابد فلا يشعر إلا بروحه وقد خفّت لتلبية النداء ،والأصوات الجميلة التى تملأ الأجواء تردد القرآن فتشق مع ظلام الليل القلوب شقاً يزيدها شوقاً لمناجاة ربها ولقائه،ودعاء العابدين لبعضهم وتهلل وجوههم فى وجوه بعض ،إن ألحان الخلود تملأ الأرض والسماء،وربما ترك الناس الراديو مفتوحاً بصوت خفيض فى المسجد بين الآذان والإقامة التى كان وقتها يطول بعض الشيئ ،فتسمع الصلاة المنقولة عبر الأثير من مساجد آل البيت رضى الله عنهم ،غالباً بصوت الشيخ أحمد فرحات والشيخ إبراهيم جلهوم رحمهما الله ،وفى صلاتهما تسمع دعاء القنوت وتأمين المصلين عليه فلا يتملكك إلا إحساس ينبئك بأن الملائكة عليهم السلام قد وضعت أقلامها لتسمع وتنظر ما يفعله عباد الله تقرباً إليه ،فإذا فرغت من صلاتك ،فإذا بك تسمع صوتاً عالياً من أحد رواد الصف الأول يختم الصلاة ويتبعه الناس ،فيكون عمله ختاماً للصلاة من جهة وضبطاً لإيقاع الناس فى ختامها من جهة وتعليماً للناشئة الحاضرين من جهة ،فإذا فرغ الناس من تلك الجرعة الروحانية التى تحلوبها حياتهم و تطيب بها نفوسهم وخواطرهم ،استقبلوا ضياء النهار وفلق الصبح وهم فى توافق كامل بين نفس منسجمة مع الحق ومع فطرتها التى تكون فى هذا التوقيت المبكر أشبه ما تكون بحالتها التى قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كل مولود يولد على الفطرة))ألا ما أجمل نفس الإنسان عندما تكون على وفاق مع ما أريد منها،وقديما قالوا (من ذاق عرف)وربما خرج علينا صوت يجاهر بأن هذه الأعمال من مستحدثات الأفعال التى يُنظر فى حكمها ،ولصاحب ذلك الصوت أقول راجع نفسك ولو أنصفت لم تلم .يا أيها الجمال المفقود عُد وأعد معك للحياة صفاءها وبريقها ومتعتها وبراءتها ،وليتك تجيب ندائي ،أو تسمع لرجائي.إن لقرآن الفجر لمتعة تحار الألباب فى الوصول إلى سرها ،كما تعجز الألسن عن تصويرها ،ويبقى التعبير الحقيقى فى لفظه ووصفه وتوصيفه ((إن قرآن الفجر كان مشهودا)).
This site is protected by wp-copyrightpro.com