١٤٤-وفى قريتنا العامرة بإذنه تعالى ووصلاً بما سبق من حديث الترزية والجلباب البلدى رأيت طائفة من الناس تعلوها أمارات البهاء وتكسوها مظاهر الزينة مهما لبسوا من ملابس زهيدة السعر أو غالية الثمن ،حتى قال الناس عبارة اختصرت كل المقالات فى هذا الشأن (القالب غالب)ويالها من عبارة أنيقة رشيقة ،واصفة كاشفة ،إذ نسبت الجمال للشخص لا للثوب ،وأفادت أن الشخص هو الذى يسكب فى الأزياء من روحه وجماله ،وأنه العنصر الفاعل المؤثر،وفى السياق ذاته ترى أجساداً لا تستقيم لها زينة إلا فى الجلباب البلدى ،سواء أكان صاحب كرش ،أو مائلاً إلى قصر القامة ،أو ذاهباً فى أجواء السماء يطاول النخل الباسقات ،لن تجد قاعدة مطردة ولا قياساً تحتكم إليه فى مسألة الزينة هذه ،فالقيمة المادية معلومة لكن الزينة الظاهرة والباطنةشيئ فيها من طغيان حضور شخصية اللابس ما فيها ،مما يُحس ويُرى ولا يوصف إلا على أنه جمال لا ندرى مصدره ولا نعلم موارده ،وفى المقابل ترى أشخاصاً أوتوا بنياناً مرصوصاً وجسداً متناسقاً ،وفيه من سخافة الملبس والمظهر ما لو استعان على تغييرهما واستبدالهما بكل ما أوتى من مال وحيلة فلا زوال ولا استبدال ،والناس من قديم محبون للزينة والتأنق فى الملبس وينفقون فى ذلك من المبالغ ما يشق عليهم أحياناً ،ويؤدى بهم إلى الاستدانة ،وبخاصة فى طائفة النساء ومجتمعهن وفيهن من التباهى بكثرة الأثواب والافتخار بغلو سعرها من سفه الرأى والتصرف ما يستوجب الحجر أحياناً ،وقد يسابقهم بعض الشباب فى هذا المسلك البغيض ،وفيما مضى من أزمان لم يكن الاستكثار من الملبس طاغياً وباغياً على أفكار الناس وسلوكهم ،بل الاقتصاد وحسن التصرف ،مع تأنق يُذكر ولا يُنكر ،وقد سمع الناس الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم يوماً عن مظاهر الكبر فقال أحدهم :لكن الرجل منا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً،فقال عليه الصلاة والسلام :((إن الله جميل يحب الجمال))فأفاد أن الزينة والتأنق لا تتنافى مع مقاصد الإسلام الصحيحة ولا مع الفطرة المستقيمة ،تصحيحاً لمعنى قد يخالج نفس المستمع أويخامر عقل القارئ ،ولم يكن الناس يبادرون إلى إلقاء الأثواب التى تطاول عليها الزمن ،بل ينظرون فى أمرها فإذا رأوها فى حاجة إلى إعادة تأهيل بادروا إلى ذلك ،ومن مظاهر هذا التأهيل أنهم قد يغيرون القطان والشرائط الحريرية إذا أدركها البلى أو فارقت أماكنها من طول البقاء وشدة القِدم ،وإذا وقع خرق فى الثوب فالرفا موجودة ولها أساتذتها الذين يأخذون بعض الخيط من الثوب ويداوون خروق الثوب بفتلات منه ،فلا تستدل على مكان الخرق لجودة الصنعة ومهارة الصانع ،وقد يُهدى أحدهم أحد أثوابه لشخص آخر فلا يكون المقاس واحداً ،فلابد إذن من عملية تُسمى (التقييف)التى تعنى إعادة تأهيل الثوب بحيث تستقيم مقاساته على لابسه الجديد ،وكان مصطلح (التقييف )يكثر استعماله مع المجندين الجدد الذين يتسلمون مهماتهم فتكون أول أجازة بعد ذلك معنية بتأهيل ملابسه وتقييفها لتتناسب مع جسمه ،فلا ينبو أحدهما عن الآخر ،وكان من عادة بعض الناس فى الجلباب البلدى وبخاصة الصوف غمره بماء النهر فى شهر طوبة فيما كان يسمى (بالتطويب)استطالة لعمره ،فإذا تمت هذه المسألة وانقضى الشتاء لم يكونوا يعمدون إلى طى الثوب ووضعه فى دولاب أو صندوق حفظاً له للشتاء القادم ،بل كان الغالب أن يظل معلقاً على شماعة تتخذ فى مكان ما بإحدى غرف البيت وغالباً ما تكون هذه الشماعة خلف باب الغرفة ،أو قريباً منها ،وقد أظهرت التجارب للناس أن هذا أنفع وأجدى فى حفظ الثوب الصوف ،فإذا كان لا محالة واضعاً إياها فى صندوق أو دولاب فإن ذلك يتم مع وضع بعض أقراص النفتالين ،وفى الشتاء تغلب الألوان القاتمة وفى الصيف تغلب الألوان الفاتحة ،وهو ما يتناسب مع طبيعة الأجواء وسطوع الشمس واحتفاظ بعض الألوان بالحرارة وامتصاصها لأشعة الشمس ،وهو الأمر الذى يتعلمه الناس بالممارسة والملاحظة ،ومهنة الترزى فى القرى فئوية خالصة فملابس الرجال يصنعها الرجال وملابس النساء تحيكها النساء ،إلا أن النسوة قد يتجاوزن هذا الاختصاص شيئاً يسيراً فيحيكن بعض الملابس الداخلية المتخذة من أقمشة (العبك والنهضة والبفتة البيضاء والدبلان)وقد يتخطين هذا الأمر شيئاً يسيراً فيصنعن البيجامة المتخذة عادة من قماش (الكستور)لا سيما للصبية الذين لم يظهروا على عورات النساء ،وفى المدن أكثر ترزية النساء رجال ،ولهم فى ذلك شهرة ومهارة ليست للنساء فى التفصيل والتطريز وتطوير الموديلات ،وكثير ممن يقوم بالتفصيل لهن صار يهرب من تسمية ترزى نساء أو ترزى حريمى إلى التسمية باسم الأتيليه ،وميصحش هذا الكلام يا سعادة البيه ،فلا زالت لدى البعض بقية من غيرة ومروءة ورجولة.
بقلم الدكتور/ عبد الرحمن نصار
استاذ التفسر ووكيل مدرية أوقاف الاسكندريه
This site is protected by wp-copyrightpro.com