فتفرقت بهم السحب! | أحمد الهلالي
09 ديسمبر 2016
0
94347
إحدى التنهيدات تشعبت، وأخذت شعبها تركض (بعدد أبنائه) في كل اتجاهات صدره، واستمرت تتشعب حتى أخطأت طريقها في الزفير، فخرجت كلها من عينيه دمعة كبريتية فوارة، همّ بالقيام، فتحسس ركبتيه، كأنه ينبههما إلى رغبته في الخروج من حنجرة البيت.

قام بتؤدة، مشى صوت عكازه على أكوام الذكرى المتناثرة في كل ممرات البيت، هذه الكنبة التي اشتراها (هيثم)، وتلك لوحة (جمعان)، وضحكات (صيتة) تلون الجدران، حتى خرج إلى فناء المنزل، لا يدري عن سبب رغبته الطموحة للإمساك بأشعة الشمس النافذة من فتحات (زنق المظلة)، ربما يظنها الشيء الوحيد في الكون، الذي تلتقي فيه عيناه وعيون أحبته المغتربين هذه اللحظة؟

يجلس بهدوء ظاهري على قطعة (بلوك) تحت ظل شجرة اللوز، تلك القطعة خلقت في أعماقه صخبا عميقا، أغمض عينيه، يرى (جاسم) حين كان يقلبها بجهد بالغ، ليقف عليها ويقطف خرصان اللوز المتدلية، وكلما أسقط واحدة بـ (المدناع) التقطتها (عيشة) وهربت، فتخبأت خلف ظهره، واقتسمتها معه بنشوة المنتصر على تهديدات جاسم، يفتح عينيه، ينظر إلى جواره، يرى خرصان اللوز منثورة بين يابسة ومنخورة، وقد صارت غذاء لقبائل النمل، يقف فيقتطف واحدة، يضعها في فمه كما كانت تضعها سعاد، يلوكها؛ لكن لا طعم لها ولا نكهة كتلك الأيام، فيتدافع ماء عينيه حتى تمتلئا، فيسوقهما على خدين غيّب الموت ماسحتهما.

بين كل خطوة والثانية كتاب منقوش بتنهيداته، وبين دفتي كل كتاب منها أسئلة لا تحصى، كلها تبدأ بـ(لماذا؟) وبعد كل (لماذا) عتب يغرق مدينة، ودمعة حارقة لا ينبت بعدها (أمل ضحوك)، يجلس في غرفته يتناول أدويته، لا تبارح عيناه شاشة الجوال حتى وهو يغمس رأس إبرة السكري في فخذه، فقد هاتفهم جميعا هذا الصباح، لكنه لم يقل شيئا، لا يريد نهبهم من أعمالهم وأطفالهم، يتجاسر على ألم روحه، وألم جسده، يشد حباله الصوتية حين يهاتفهم، كيلا يبين.

يسحب دفتر وحدته، يحاول الكتابة، يكتب ثم يتراجع، لم يشعر بذاته إلا حين قلت ورقات الدفتر، فيستمر هذه المرة «أبنائي وبناتي، حياتكم بين يديكم، ونجاحكم سعادتي، أعلم يقينا محبتكم لي، ومحاولاتكم أن أترك منزلي وأعيش مرفها بين يدي عنايتكم، وأعلم أنني خلقت في دواخلكم المتطلعة إلى الأمام حبالا تشدها فتلتفتون إلى الخلف، إلى هذا العجوز البائس (العنيد)، لكنكم ربما لا تعلمون أن هذا البيت المتهالك هو (الحياة لي)، هو وطني، وفي كل ذرة من تكوينه سكبت قطرة من روحي. أبنائي يشهد الله أني أخشى عليكم مخاطر الطرق، والتشتت عن مصالحكم، لكني لا أشعر بالحياة الحقة إلا حين أراكم هنا، فيخضر هشيم هذا (الوطن الصغير)، والسلام».

أحمد الهلالي
alhelali.a@makkahnp.com

قناة شبكة الاعلام السعودي

تابعنا على الفيس بوك

© 2016-2024 All Rights Reserved صحيفة شبكة الاعلام السعودي Design and hostinginc Digital Creativity

This site is protected by wp-copyrightpro.com