موعدٌ فلقاءٌ فهجاءٌ .. أيام مع جورج جرداق
04 يوليو 2021
0
55242

بقلم: غريد الشيخ

“هذه ليلتي وحلم حياتي
بين ماضٍ من الزمان وآتي ”

إنه صوت السّتّ “أمّ كلثوم” ينطلق من مسجّل سيارتي المنطلقة بجنون لتوصلني للقائه…
لقاء الشّاعر الكبير جورج جرداق…
قلبي يدقّ بقوّة، حتّى لكأنّ دقّاته توازي أو تزيد على صوت أم كلثوم… آه سأتعرّف إليه شخصيًّا.. أليس من الرّائع أن تعيش في زمن العمالقة، وأن تعرفهم عن قرب…
وصلت إلى القهوة المقابلة لإذاعة صوت لبنان، رأيته هناك ينتظرني، عرّفته بنفسي، وقدّمت له مجموعة من كتبي.
تكلّمنا كثيرًا عن أغنية أمّ كلثوم، وعن ظروف كتابتها، وانتقل الحديث بعدها إلى مواضيع أخرى.
وتوالت اللّقاءات، وكنا نتحدّث لساعات عن كلّ شيء، ولكن أكثر ما كنا نتحدث عنه هو موضوع الهجاء، فأنا شخصيًّا من المُعْجَبات بهذا الفنّ ولا أُخفي عشقي لجرير، ولطالما اعتقدتُ أنَّ هذا النّوع يحتاج إلى ذكاء فطريّ وقوة انتباه وخفّة ظلّ لدى الشّاعر.
حدّثني عن هجائيّاته لمنصور وعاصي الرّحباني، وعن ردّهما عليه، وكم أخذتْ هذه الهجائيات من مساحات واسعة في الصّحافة اللّبنانيّة.
في أحد الأيام كان لدينا موعد مع الشّاعر عبد العزيز البابطين في “عاليه”. صعدتِ السّيّارة بنا، وكان ثالثنا صوت أمّ كلثوم الرّائع، وبين المقطع والمقطع كان رفيقي يقفز على مقعده ويسأل بفخر: هل هناك مَن يكتب أجمل من هذا الكلام؟
هززتُ رأسي موافقةً، مع ابتسامة تهربُ من شفتي، فقد تذكّرت الكثير من أصدقائنا الشّعراء الذين يردّدون العبارة نفسها، ولكن لقصائدهم طبعًا.
وفي طريق العودة، صمتَ قليلًا ثم التفت إليّ قائلًا: بي رغبة شديدة لهجاء شخص ما…
نظرتُ إليه بطَرف عيني وسارعتُ لتقديم اقتراحات خبيثة وقلت: حسنًا، ما رأيك بهجاء صديقنا الشاعر باشراحيل؟
أجاب بعد تفكير قليل: لا… لا… فعبد الله صديق عزيز، وربما يزعل مني.
قلت بسرعة: إذن، الشّاعر عبد العزيز خوجة، إنّه طيّب ولن يزعل وسيأخذها بروح رياضيّة كعادته؟
ضحك طويلًا وقال بخبث: ولماذا عبد الله أو عبد العزيز، وليس غريد!
أجبته بسرعة: لا .. لا أظن أنك ستفعلها فنحن أصدقاء، ربما تكتب لي قصيدة غزل تكون أهمّ من هذه التي غنَّتها أم كلثوم.
قال: حسنًا سأحاول أن أختار أحدًا غيرك لأنّ شيطان شِعري لن يدعني وشأني هذا اليوم.
انتهى مشورانا، وفي اليوم التّالي استيقظت على صوت رنين الهاتف المتواصل، فإذا به هو، قال: أريد أن أراك اليوم ضروري… وأغلق الهاتف دون أن يتيحَ لي فرصةً للجواب.
أسرعت للقائه، وصلت المقهى فوجدت مجموعة من الأوراق المكدّسة على الطّاولة، أخرج ورقة مكتوبة بخطّ جميل… قلت ممازحة: لا بدّ أنّك اشتقتَ إليّ منذ البارحة، هاتِ اقرأ لي أحلى كلام في الغزل والشّوق.
قال مبتسمًا: نعم.. نعم.. اسمعي:
“أُختُنا هذه الغريدُ ترى في الهَجْوِ
دومًا أغلى وأحلى الكنوز
بعد أن عَدَّدَتْ مكارمَ أخلاقِ
الصَّديق الكريم عبد العزيزِ
وأشادت بذِكرِه وأجادت
بكلامٍ وافٍ وغيرِ وجيزِ
فهوَ حُرُّ الخِلالِ شهمٌ نبيلٌ
باتَ من خُلْقِه بحِرزٍ حريزِ
وحبيبٌ لكلِّ مَن عَرَفوه
من نصارى وشيعةٍ ودروزِ
طالبتني بِهَجوِه أيَّ هَجْوٍ
لا يُوارى صريحُه بالرُّموزِ
وهي تُعنى بنشره في الجرانيل
وأُعنى به على الإرزيزِ (التّلفزيون بلغة المجمع العلمي العربي)
حَلّفتني بالأمريكانِ ثلاثًا
وبإيزا مليكةِ الإنكليزِ
حلّفتني بالنّائبِ الشّهمِ
زوزو وبحسناء سهرة السَّبتِ زيزي
أن أُطيلَ اللِّسانَ غَمْزًا ولَمْزًا
ثمّ هَمْزًا يليقُ بالمهموزِ
شئتُ إرضاءَها فأمضيتُ عامًا
من شباط الماضي إلى تموزِ
بين طِرْسٍ مُجَهَّزٍ ويَراعٍ
مُستعينًا بالرّاحِ تملأُ كوزي
غير أنّي عَجزتُ عن نظمِ بيتٍ
واحدٍ في هجاء هذا العزيزِ
رغم أنّي هجوتُ منذُ ليالٍ
كلَّ نوّابنا بلا تمييزِ
ناظمًا في صِفاتِهم ألفَ بيتٍ
وأنا جالسٌ على الإفريزِ
وتمنّى عَلَيَّ شيطانُ شعري
أن أُواليه أو أُسَكِّرَ بُوزي
قال: هجوُ الكريمِ صعبٌ
فدَعْهُ وتغزَّلْ بـ (غادةٍ) أو بـ (سوزي)
واهجُ هذي الـ (غريدُ)
هجوًا يُدَوّي صوتُه من هنا إلى تبريزِ)
ضحكنا طويلًا، ثم قلت له بلهجة جازمة: قد هَجَوتني بقصيدةٍ… والله لأهجونّكَ بكتاب.


قناة شبكة الاعلام السعودي

تابعنا على الفيس بوك

© 2016-2024 All Rights Reserved صحيفة شبكة الاعلام السعودي Design and hostinginc Digital Creativity

This site is protected by wp-copyrightpro.com