تسويق المدن.. كيف تعيد جدة صياغة جودة الحياة
27 ديسمبر 2025
0
1386

 

هيفاء الساعد

اخصائي تسويق

تتحرك المدن اليوم في مسار مختلف عمّا اعتادت عليه سابقاً، حيث تتقدم تجربة العيش لتصبح جزءاً أساسياً من التخطيط الحضري والاقتصادي. في هذا الإطار، يبرز مفهوم تسويق المدن كأداة عملية تعيد صياغة علاقة الإنسان بالمكان، وتحوّل المدينة إلى مساحة متكاملة تجمع بين العمل والحياة والفرص. هذا المفهوم يتعامل مع المدينة بوصفها تجربة يومية، تبدأ من الشارع وتمتد إلى الاقتصاد والثقافة والهوية.

يقوم تسويق المدن على إبراز الخصائص الحقيقية لكل مدينة، والعمل على تطويرها ضمن رؤية طويلة المدى. فالتخطيط، وجودة الخدمات، وسهولة التنقل، والمساحات العامة، عناصر تشكل مجتمعة صورة المدينة في أذهان سكانها وزوارها. التجارب العالمية تشير إلى أن المدن التي ركزت على تحسين هذه التفاصيل استطاعت تعزيز جاذبيتها الاقتصادية، ورفع قدرتها على استقطاب الاستثمارات والمواهب.

ضمن هذا المشهد، تمر جدة بمرحلة تحول تعكس اهتماماً متنامياً بجودة الحياة بوصفها مدخلاً عملياً للتنمية الحضرية. يبرز هذا التوجه في حزمة من المشاريع التي تعيد قراءة علاقة المدينة بسكانها، من خلال إعادة تشكيل الفضاءات العامة، وتطوير الواجهات البحرية، وتهيئة المسارات المفتوحة التي تشجع على المشي والتفاعل اليومي مع المكان. كما تتجه المدينة إلى بناء مراكز حضرية جديدة تخفف الضغط عن النطاقات التقليدية، وتوفر بيئات عمل وسكن وخدمات أكثر توازناً، بما يواكب متطلبات النمو السكاني والاقتصادي.

هذا التحول نتاج فهم أعمق لدور التخطيط الحضري في تحسين التجربة اليومية للساكن، حيث تصبح جودة الحياة عاملاً مؤثراً في جذب الكفاءات والاستثمارات، ومؤشراً على قدرة المدينة على الاستمرار والتنافس. وفي هذا السياق، يتجاوز تطوير المشاريع بعدها الإنشائي إلى دورها في تنظيم الحركة، وتسهيل الوصول للخدمات، وتعزيز الاستخدام المتعدد للمكان، بما يخدم شرائح مختلفة من المجتمع.

الواقع الحضري لجدة يتسم بتنوع واضح، فهي مدينة تحمل إرثاً تاريخياً عريقاً، وتؤدي دوراً تجارياً محورياً، وتحتضن نشاطاً سياحياً متنامياً. هذا التنوع يشكل رصيداً مهماً، ويضع في الوقت ذاته مسؤوليات تتعلق بإدارة الكثافة المرورية، وتحقيق قدر أعلى من العدالة في توزيع الخدمات بين الأحياء، والاستجابة للطلب المتزايد على البنية التحتية. التعامل مع هذه الملفات يمثل جزءاً أساسياً من مسار تسويق المدينة، حيث تترسخ المصداقية عندما ينعكس التطوير الحضري على تفاصيل الحياة اليومية، ويشعر السكان بأن التحول الحضري يلامس احتياجاتهم الفعلية، ويعزز ارتباطهم بالمدينة على المدى الطويل.

اقتصاد المدن يرتبط اليوم بالإنسان بقدر ارتباطه بالموقع. المستثمر يبحث عن بيئة مستقرة تدعم الإنتاجية وتوفر نمط حياة متوازن. في جدة، يتكامل هذا التوجه مع مشاريع كبرى تسعى لربط النشاط الاقتصادي بالفضاءات العامة، حيث يصبح الرصيف، والمقهى، والمساحات المفتوحة، عناصر فاعلة في بناء اقتصاد حضري أكثر حيوية.

تحمل جدة رصيداً اجتماعياً وثقافياً يشكل جزءاً من علامتها الحضرية. روح الانفتاح، وسهولة التفاعل، وقرب البحر، عناصر تمنح المدينة طابعاً خاصاً. الحفاظ على هذا الطابع أثناء مسيرة التحديث يعزز قدرة جدة على تقديم نموذج محلي لتسويق المدن، يستند إلى خصوصيتها ويواكب في الوقت نفسه التحولات العالمية.

في المحصلة، تسويق جدة يعكس مساراً يتعامل مع جودة الحياة كخيار استراتيجي يرتبط بالاقتصاد، والتخطيط، والإنسان. هذا المسار يمنح المدينة فرصة لتعزيز حضورها الإقليمي والدولي، عبر تجربة حضرية تنمو بثبات وتستمد قوتها من واقعها وتطلعاتها.


قناة شبكة الاعلام السعودي

تابعنا على الفيس بوك

© 2016-2025 All Rights Reserved صحيفة شبكة الاعلام السعودي Design and hostinginc Digital Creativity

This site is protected by wp-copyrightpro.com