جسد الإنسان حبيب لديه مؤاخذ عليه ،مأمور بحمايته وحسن رعايته ،
والأجساد محل إعجاب ومحل وصف ،ومحل رغبة ،ومظهر عناية،
تكبر أجساد بعضنا فيشتهر بين الناس بضخامة الجسد ،
وتصغر أجساد بعضنا فيشتهر بين الناس بالتقزم ،
وتعتدل أجساد بعضنا فيتواصف الناس الإعجاب به .
وتلك قضية لا يخلو منها زمن ،ولا تفرغ منها أمة .
يصفون عمربن الخطاب بالطول الفارع الذى أدى بأحد الرعية أن يعلن عدم السمع والطاعة له إلا إذا علل مصدر ثوبه الطويل.
وينسبون خفة الجسم لابن مسعود ،إلى الحد الذى أضحك الجمع على قدمه النحيفة وهو يصعد النخل يحصد من ثمارها ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لرجل ابن مسعود فى الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد)).
ويقولون عن سمات سعيد بن المسيب :لقد كان أفطس الأنف أسود الوجه مفلفل الشعر أشلَ أعرج ،لكنه إذ يتكلم فكأنما هو قطعة ليل تتلألأ فيها النجوم .،وكأن الملائكة تصعد من حوله وتهبط رضاً بما يقول .
وتستوى أجساد وتتناسب أجزاؤها فى الحُسن ،فلا تجد فيها إلا محامد شتى وبدائع تترا.
وإن تك آخذاً لذلك مثلاً فلا أروع من وصفه عليه الصلاة والسلام ،الذى نقله لنا الرواة عن أم معبد ،وإن كان ثمة تعجب ،فمن وصفها هذا وهى التى لم تره إلا فى لحظة عابرة ،مرّ فيها عليها وهو فى طريق الهجرة.
والأجساد توصف مرة بكُلها المتكامل ،وتوصف أخرى بأجزائها التفصيلية .
فيصفون الساق والأحداق والأعناق ،والخد والقد ،والطول والعرض ،
ويصفون كذلك إقبال الجسم وإدباره ،وخفة صاحبه وثقله.
فوقع الوصف على الجسد بتفاصيله وحركاته كدوران الأعين ،والخضوع فى القول ،
وسواد الوجه وقترته وخشوعه من الذل ،
وبياضه ونعيمه وإشراقه حتى لتعرف فيه نضرة النعيم .
ووقع فى كثير من الكتب وصف لأشخاص من باب التندر حيناً ،ومن باب ذكر الطرائف أحياناً.
كما وقع للجاحظ الذى قابل فى السوق امرأة دميمة قد اكتنزت لحماً وطبّقت شحماً فقرأ عليها قوله تعالى ((وإذا الوحوش حشرت ))وقد كان هو كذلك شديد الدمامة فقرأت عليه من فورها ((وضرب لنا مثلاً ونسى خلقه )).
ويقصون أن امرأة ذهبت ذات يوم لنجار تطلب منه أن يصنع لها تمثال شيطان تخيف به ولدها فلما سألها النجار عن الشكل ،رأت الجاحظ يمشى فى السوق فأشارت إليه وقالت مثل هذا.
وابن قتيبة فى عيون الأخبار يروى نبأ رجل يهجو زوجته فإذا به يقول فى ختام قصيدته :-
وإذا ضحكت أمام قوم ظنوها
أمامهم كلباً يهِرُ وينبح ،
إذا رأى الشيطان صورة وجهها
تعوّذ منها حين يمسى ويصبح.
وطرائف الأخبار ونوادرها فى هذا الباب كثيرة ،
ومنها أن أحد الأمراء قال ما يشبه التغزل فى قدمى رجل ،فرد من فوره:(هما كما قلت أيها الأمير إذا كانتا فى مثل إِستك ).
وكثيرا ما وصفوا من النساء تحديداً الأعين والقدود والساق والأعناق والأحداق ،والأسنان واعتدال القوام ،وهو باب واسع من الغزل والوصف معاً،وردت فيه آلاف القصائد.
والإبشيهى فى المستطرف ذكر نبأ جماعة تسامروا فأتوا لكل حرف من اللغة العربية بعضو للإنسان ،وأراد بعضهم إظهار اقتداره فجاء لكل حرف بعضوين ،وأراد بعضهم إظهار فحولته الثقافية فذكر لكل حرف ثلاثة أعضاء.
لقد شغلت الأجساد الناس قديماً وحديثاً فأحصوا كل ما يتعلق بها من وصف ورصف .
ووقع الثناء عليها عضواً عضواً كما وقع الهجاء عليها عضواً عضواً ،من باب إظهار الاقتدار على ذِكر الشيئ ونقيضه .
وانشغل الناس بأجسامهم عن أنفسهم شغلاً كبيراً،ولو أولوا نفوسهم ما أولوه لأجسادهم لتغيرت مواقفهم فى السُلم الإنسانى والحضارى ،
ولكن الإشعاع المادى غلب الناس وأغراهم بريقه.
وأخذوا من الناس ظواهرهم فنسبوهم إلى الحسن والقبح ،وأحبوهم وأبغضوهم على أساس أشكالهم ،إلا قليلاً نجوا من هذه الوصمة .
فنسبوا الجمال إلى الروح لا إلى الجسد ،بعدما وقفوا على الحقيقة التى تنبئ بأن الجسد يتحور من الضعف إلى القوة ثم إلى الضعف ،
ومن النضرة إلى الذبول .
ومن كل معانى القوة والحسن إلى ما يناقضها من القبح والضعف .
وتبقى الروح والنفس الصافية تصعد فى معارجها مهما ضعفت الأجساد.
انشغل الناس بحسن الجسد فجعلوه علامة الجمال ومسوغ الإقبال واختلفت مقاييس هذا الجمال عندهم من زمن لزمن ،
فاستحسنوا البدانة يوماً وتواصفوا الإعجاب بها وجعلوها أمارة الجمال وعلامة الدلال ،
مع أننا نجد فى مواريثنا الثقافية والدينية ما يحذرنا منها .
فنجد مثلاً عمربن الخطاب رضى الله عنه يقول ((إياكم والبطنة)) محذراً بهذا من تكدس اللحم والشحم ،
وحيناً من الدهر نجد ما كان موضع استحسان صار موضع استهجان ،وبعد أن كانوا يطلبون من الجسد أن يكون من الطراوة بمكان ، لدرجة أن بعض البلاد كان يحرص على السِمنة والربربة لدرجة اختراع أكلات تؤدى إليها مثل المفتقة فى عموم مصر ،ومثل لحم التِرسة فى مدينة الاسكندرية ،وكان لبيع لحمها يوم محدد بسوق الميدان ببحرى من جهة شارع إسماعيل صبرى.
واليوم انقلبت الآية وانعكست الثقافة .
فجرى الناس خلف النحافة وضمور الجسد جرياً حثيثاً يبذلون فيه أموالا
كثيرة ،بعد أن تبدلت مقاييس الجمال ،وبعد أن أقنعهم العلم والطب بضرورة التخلص من السمنة .
والتقطت الرأسمالية طرف الخيط .
فعزفت على هذه الأوتار وعرفت كيف تغرى الناس باستبدال الثقافة القديمة ،
وأنفقت الرأسمالية فى الدعاية لذلك من الوقت والمال ما الله به عليم ،
وكرّهت إلى أهل السمنة أجسادهم ،وإلى أهل البدانة أجسامهم ،وأقنعتهم بأنهم مرضى ،وأن عليهم أن يعالجوا ليس رأفة بهم ، ولكن انتهاباً لما فى أيديهم وجيوبهم ، ومن قدر على مداواة نفسه أحس بالراحة والمتعة. وأحب جسده ،
ومن لم يقدر على المداواة أو قدر ولم تنفع معه المداواة ،كره نفسه وجسده ،وتنمر عليه مجتمعه وآذاه ،حتى يكره الإنسان جسده ،ويعيش أسيراً لفكرة كراهية نفسه وجسده ،بعد أن لم يفلح فى السيطرة عليه ،مما يدفع البعض إلى ضَر نفسه وقد يتصاعد هذا الضر إلى حدود الانتحار ،والتخلص من الحياة كلية .
بسبب ما ألقى فى روع صاحب الجسد فى بغضاء وكراهية لهذا الجسد.
والمسألة وإن كانت تؤلم نفسياً، إلا أن سُعار الرأسمالية المتوحشة يجب أن يُقيد ،
ويجب أن يفهم الإنسان أن جسده وإن كان أمانة لديه ،
فإن تقييمه كإنسان تتدخل فيه عوامل أخرى ،أهمها النفس والفضائل .
وقد انتبه بعض الشعراء إلى هذا المعنى فقال :-
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان .
وقال آخر :-
وإن النفوس إذا كانت كباراً
تعبت فى مرادها الأجسام.
فأحبوا أنفسكم كما أنتم وأحبوا أجسادكم كذلك ،
ولا تحرموا أنفسكم وأجسادكم من التهذيب والتقويم ،
ولا تبغضوها وتكرهوها كذلك .
فمن آيات الله اختلاف الألسنة والألوان والأجساد إظهاراً لكماله وقدرته .
وما يعقلها إلا العالِمون .
والمسألة وإن صارت مرضاً ،فقد أصبح من مشقته أن الدول لا تدرجه فى التأمين الصحى ،
وتعتبر طلب التداوى منه ،نوعاً من التجميل ،الذى لا يصح أن تتحمل الدول كلفته وميزانيته ،مما جعل هؤلاء المرضى سلعة رائجة فى أيدى تجار الأجساد .
وكل تاجر منهم ينفق سلعته بما وسعه من فنون الدعاية ،ويسعى جاهداً فى إظهار عوار غيره ،وعدم نجاعة وسائله .
وتسمع حديث بعضهم عن بعض ،فكأنما هو حديث أهل جهنم عن بعضهم ((كلما دخلت أمة لعنت أختها)).
ويقف المريض بإزاء ذلك حيران غضبان ،
فإذا أضيف إلى حيرته فشلٌ فى التداوى ،صار يقلب كفيه على ما أنفق.
وزادت كراهيته لجسده ،ولمن يتنمرون عليه ويهزأون به .
وتلك من المعضلات الثقال .
مقال للدكتور / عبد الرحمن نصار
استاذ التفسير ووكيل مدرية الأوقاف بالإسكندرية
This site is protected by wp-copyrightpro.com