لطيفة حسيب القاضي – فلسطين
لكل عصر مفاهيمه ومصطلحاته ومفرداته واهتماماته وقضاياه الخاصة، ومن المفاهيم الجديدة التي تُطرح في هذا العصر هو مفهوم (العولمة) الذي أقترن ظهورها بانتهاء الحرب الباردة وبما يسمى ب (النظام العالمي الجديد) وهو في حقيقته، وطبيعته نظام صاغته قوى، وفرضته على المجتمعات الإنسانية كافة والزمت الحكومات بالتقيد به وتطبيقه.
مفهوم العولمة: هي أداة تجسد التغيير الحاصل في كل المجالات ويعتبر منهجًا جديدًا لطبيعة العلاقات الاجتماعية سواء النفعية أو المادية بعيدًا عن القومية والعائلية والعرقية والدينية، فهي انتشار للتكنولوجيا والمعلومات والمنتجات؛ ذلك عبر الحدود والثقافات الوطنية المختلفة، ويمكننا القول بأن المفهوم الأساسي العولمة ظهر في زمن البشر الأوائل.
بدأت فكرة العولمة مع فكرة الدولة القومية بدل من الإقطاعية، ومع التقدم المستمر أضحت الدولة لا تستوعب حجم السوق، وكانت النتيجة ظهور الشركات المتعددة الجنسيات فحلت محل الدول بيد أن العالم أصبح مجالاً لعمل هذه الشركات، ولقد ارتبطت العولمة بين المفكرين بثلاثة أحداث وهي: السياسية والتقنية والاقتصادية.
العولمة هي ظاهرة معقدة ذات ابعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وحضارية وثقافية وتكنولوجية أنتجتها، وساهمت في ظهورها التغيرات العالمية، ولا يمكن فصل ظاهرة العولمة وأشكالها عن المجريات السياسية الأمريكية مما جعل من العولمة ظاهرة عالمية.
أختلف تعريف العولمة عند المفكرين حيث جاء الدكتور سعد الباز قائلًا: “العولمة هي الاستعمار بثوب جديد، وبلا هيمنة سياسية مباشرة، وإن هذه العملية يدفعها الجشع الإنساني للهيمنة على الاقتصادات المحلية والأسواق وربطها بأنظمة أكبر”. واعتبرها أسعد الحمراني قائلاً: ” إن العولمة غزو ثقافي اجتماعي اقتصادي سياسي يستهدف الدين والقيم والفضائل والهوية ، كل ذلك يعملون به باسم العولمة وحقوق الإنسان”. ويقول الدكتور محمد عابد الجابري :”أن العولمة تعني نفي الآخر وإحلال الاختراق الثقافي والهيمنة، وفرض نمطٌ واحد للاستهلاك والسلوك” ومن هنا فأن العولمة تُعد نموذجًا من مخططات الاستعمار آيلة إلى توحيد العالم الإنساني والوحدة. فهي انتماء عالمي يحمل فكرًا استبداديًا ليسخر إرادات الشعوب الضعيفة لصالحه، والفكرة سيطرة المهيمن على الاقتصاد العالمي والقوى العسكرية والادارة السياسية على شعوب العالم الفقير والسعي لإفقار ما ليست فقير، وتسعى العولمة لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الإنسان والحياة والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافيًا وفكريًا وطغيان الثقافة الغربية.
ومن هنا فأن العولمة في معناها الثقافي تُعد مرحلة من مراحل التفكير في العالم المعاصر، وإن إشكاليات العولمة طُرحت كظاهرة، وإن لها ارتباطًا وثيقًا بالهوية؛ لأن هويتنا تُعني بكيفية معرفة ذاتنا أو أمتنا، وهذا لا يأتي إلا عن طريق الثقافة، واللغة والدين. فهوية الإنسان الثقافية في جوهرها وحقيقتها هي هوية أية أمة، فهي صفاتها التي تميزها من باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الثقافية.
من هنا أنقسم العلماء والمفكرين إلى قسمين: البعض منهم مؤيد للعولمة والآخر مناهض لها ويحذر من خطرها على هويتنا وثقافتنا. ليس هناك خلاف بين المفكرين العرب على أن العولمة ستكون لها تأثيرات عظيمة على الواقع العربي ككل، ويختلفون حول هذه التأثيرات ومدى مقاومة الأمة العربية وصمودها.
المؤيدون لفكرة العولمة: يفكرون بأنها أحدثت نقلة نوعية في عالم المعلومات على مستوى كافة ميادين المعرفة الأمر الذي يطرح تساؤل: هل هذا العالم مُبشر بالحياة والعيش المشترك، والعدل الاجتماعي؟ وهل نحن في اتجاه تلاقح الحضارات من أجل ثقافة التنوع الإنساني.
يرى البعض الآخر من المفكرين أن العولمة أدت بنا إلى وحدة القيم الثقافية وهذا واضح من خلال القراءة للعديد من مؤلفات الكُتاب الأوربيين، والعرب فنلاحظ اختلاف في : اللغة والهوية والقومية والثقافة إلا أنهم يشتركون في الدفاع عن قيم ثقافية واحدة.
نحن لا نستطيع إنكار دور الحاسبات الإلكترونية سمة اساسية، ومميزة لثورة المعلومات الهائلة في السنوات الأخيرة؛ لذلك فأن العولمة أمر واقع يحتم علينا واقع جديد في التفكير.
المعارضون لفكرة للعولمة: كان حديثهم عن ظهور تغيير كبير في البنية الأساسية لمكونات الحياة مع دخول العولمة على كافة المستويات. ومن هنا ظهر المعارضون لها باعتبار أن العولمة ستساعد على زيادة معدل البطالة وانخفاض الأجور واتساع الهوية بين الأغنياء والفقراء وتقليص دور الدولة في العديد من الخدمات. وإن لها مثالب عديدة حيث أنها تعمل على إخضاع الجميع لسياسة القوى العظمى والقطب الأوحد في العالم وهو الولايات المتحدة الأمريكية.
يرى البعض الآخر من العلماء والمفكرين أن العولمة هيمنة الغرب على العالم بشكل كبير مما أدى بنا إلى الكثير من السلبيات في الحياة والفكر والثقافة، حيث عولمة الثقافة هو الأشد خطرا بسبب فرض ثقافة أمة على سائد الأمم بمعنى فرض لثقافة الأمريكية على العالم أجمع، وهذا من خلال وسائل الإعلام والكلمة المقروءة والمسموعة والبث المباشر في شبكات الأنترنت.
تسوق العولمة لوهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة وترويج الشذوذ الجنسي؛ فيحاول الغرب إصدار قوانيين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم والترويج للإباحة والاختلاط بما يخالف القيم والمبادئ والأخلاق.
أهم ظواهر العولمة:
هيمنة الغرب وسقوط المعسكر الشرقي.
التقدم في وسائل الاتصال والتكنولوجيا الرقمية.
ظهور المؤتمرات والمؤسسات الدولية والشركات متعددة لجنسيات.
أثر العولمة على الثقافية والهوية العربية:
إن الثقافة هي إدراك البشر لواقعهم والدلالة التي يسندونها له. وهي أنماط العلاقات التي يقيمونها فيما بينهم، وتعتبر فكرة الثقافة إحدى الركائز الرئيسية لظاهرة العولمة بمعناها الشمولي، وإن الهوية الثقافية هي عبارة عن مجموعة من القيم والتصورات التي يتميز بها مجتمعٍ بعينه وفقا لخصوصياته الحضارية والتاريخية، فكل شعب له ثقافته المختلفة عن غيره من الشعوب الأخرى.
وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تقود العالم فإن العولمة الثقافية تعني سيطرة الثقافة الأمريكية على العالم لتعمل على سيادة القيم الأمريكية لتكون قيما عالمية لحل محل القيم القومية، وإن نظرية الحضارة ل (صاموئيل هنتنعتون) من النظريات التي أبرزت دور عولمة الثقافة ولكن أُخذ عليها أنها أخذت الطابع الحتمي للصراع بين الحضارات فهي نظرية استعلائية نرجسية تقوم على وضع الحضارة الغربية فوق الحضارات جميعا فكان غاية النظرية تبرير سيطرة الولايات المتحدة على سياسة العالم والقضاء على الحضارة الإسلامية.
سُبل مقاومة الأثار السلبية للعولمة:
يجب العناية باللغة العربية في كافة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية التي تقوم عليها العولمة؛ لأن الإعلام إحدى الركائز الاساسية. ويجب العمل على كشف مواطن القوة والضعف فيها، ولابد علينا أن نقوم بواجباتنا في الحفاظ على الهوية ودعمها، وعلى جانب المناهج التعليم علينا التقليل من الاهتمام باللغات الأخرى، والتعامل بشيء من الرفض وليس الرفض المطلق؛ لأن الدول والمجتمعات لا يمكنها تجنب خطرها؛ وعلى هذا المنوال فأن القبول المطلق لها لن يمكننا من الاستفادة منها. من هنا لابد من إصلاح الأوضاع الداخلية بصورة تدريجية، ولا يأتي ذلك إلا عن طريق تحقيق العدالة ومكافحة الفساد، وهذا مدخل حقيقي لبناء دولة المؤسسات وتحقيق سيادة القانون. علينا من تحديث ثقافتنا ولا يكون التحديث إلا عن طريق الانخراط في التكنولوجيا كمساهمين ومقاومة الاختراق، وإغناء هويتنا ومقاومة الغزو الثقافي. والنظر في المناهج الدراسية والجامعية بطريقة يكون الهدف منها تأصيل الملامح الحضارية العربية.
الآثار الإيجابية المترتبة على ظهور العولمة:
الابتكار حيث أن العولمة تحفز على الابتكار وذلك من خلال انتشار التكنولوجيا ونقل الأفكار، أيضا تساعد على خلق فرص عمل جديدة وحيث أنها تعمل على دعمها، وتعمل على توفر منتجات أفضل للمستهلكين وتعمل على تعزيز النمو الاقتصادي، وتساعد على التوسع في نطاق العمل حيث تشجع الشركات الكبرى للوصول للعملاء والنتيجة حصولها على عائد أعلى.
إن نجاحنا في الحفاظ على الهوية والدفاع عن الخصوصية مرهون بمدى عمق الانخراط الواعي الذكي في عصر التكنولوجيا؛ فيجب الاعتماد على الجوانب الإيجابية لهيمنة العولمة فلابد من المحافظة على هويتنا الثقافية والأخلاقية مع الاستفادة بالطفرة العلمية الناتجة من العولمة.
This site is protected by wp-copyrightpro.com