بيوت بلا صوت… وطلاق بلا وعي
20 ديسمبر 2025
0
1980

د. نواف مستور المذاهبي

 

في مجتمعنا اليوم لا تنهار البيوت فجأة بل تتآكل بصم

ليست كل البيوت التي تسقط يُسمَع لها ضجيج بعضها ينهار بهدوءٍ مخيف، تتآكل جدرانه من الداخل،ويغيب عنه الحوار قبل أن يغيب السقف.يبدأ الأمر بتأجيل الحديث،ثم بالصمت،
ثم بالاعتياد على الغياب رغم الحضور.
حتى تأتي كلمة واحدة، لا تُنطق فجأة،
بل بعد أن يكون البيت قد مات في الداخل. والأكثر قسوة أن هذا الانهيار لا يُرى في بدايته، ولا يُلتفت إليه إلا بعد فوات الأوان، وحين يُعلن الطلاق،يظن الجميع أنه السبب،
بينما الحقيقة أنه كان النتيجة الأخيرة لتآكلٍ طويل. ولم يعد أكثر ما يُخيف في الطلاق هو وقوعه، بل سهولة النطق به كلمة تُقال في لحظة غضب،
فتنتهي بها أسرة، ويتغيّر بها مستقبل أطفال، وتُفتح بها ملفات ألم قد تمتد سنوات.

وهذه السهولة لم تأتِ من فراغ، بل هي انعكاس لتحوّل اجتماعي أعمق حيث تشير تقارير اجتماعية حديثة إلى ارتفاع ملحوظ في نسب الطلاق ، حتى باتت بعض الإحصاءات تتحدث عن حالة طلاق واحدة من كل ثلاث زيجات، مع ملاحظة أن نسبة كبيرة من حالات الانفصال تقع في السنوات الأولى من الزواج.
وهذه الأرقام لا تمثل قصصًا فردية معزولة،بل تعكس نمطًا متكررًا من العلاقات الهشّة ولفهم هذا التحول، لا بد من التوقف عند إيقاع الحياة نفسه
فنحن نعيش اليوم زمن السرعة؛ نرغب في كل شيء الآن،ونغضب سريعًا،وننسحب أسرع.
فكثير من الزيجات تبدأ قبل نضج النفوس، وقبل أن يتعلم الشريكان فن الاختلاف، ومهارة الحوار، وقدرة الاحتمال. وحين تظهر أول مشكلة، لا يُطرح سؤال: كيف نُصلح؟ بل يُستدعى الطلاق كحلٍّ سريع، لا كآخر الخيارات.

وجاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتُعمّق هذا الخلل حيث أسهمت في تشويه صورة الزواج الواقعي؛ صور مثالية، وحياة بلا تعب، وسعادة مُفلترة لا تشبه الواقع، زرعت شعورًا دائمًا بعدم الرضا، وأضعفت الصبر، فكان الطلاق في كثير من الحالات إحدى نتائج هذا الوهم.

ومع كل ذلك، لا يمكن النظر إلى الطلاق بنظرة واحدة فقط و إنكار أن الطلاق في بعض الحالات يكون قرار نجاة، حين يغيب الاحترام، ويتحوّل الزواج إلى أذى نفسي أو عنف، وتُستنزف الكرامة يومًا بعد يوم. هنا لا يكون الطلاق فشلًا، بل حماية للإنسان من علاقة مدمّرة. لكن المأساة تبدأ حين يُساء استخدام هذا القرار و يصبح الطلاق قرارًا انفعاليًا، يُتخذ دون تقدير للعواقب، ودون وعي بآثاره الممتدة، خاصة حين يكون هناك أطفال.

فالطفل لايطلق… لكنه يدفع الثمن
في كل طلاق،هناك طرف لا يُستشار،ولا يُسمع صوته،لكنه يتحمّل الأثر طويلًا وغالباً أول من يتحمّل نتائجه. فهو لا يفهم تفاصيل الخلاف،ولا مبررات الرحيل،لكنه يشعر بالنتيجة:
أمانٌ يتزعزع،وهدوءٌ يختفي،وأسئلة أكبر من عمره.
حيث تشير دراسات نفسية واجتماعية إلى أن الأطفال في حالات الطلاق غير الواعي أكثر عرضة للقلق، واضطرابات السلوك، وتراجع الثقة بالنفس، ليس لأن الطلاق وقع، بل لأن الخلاف تحوّل إلى صراع، ولأن الطفل أصبح ساحة مواجهة، أو أداة ضغط، أو ضحية صمتٍ لم يُشرح له فالطفل لا يحتاج أبوين معًا تحت سقف واحد مليء بالخصام،ولا يحتمل انفصالًا يُدار بفوضى،بل يحتاج إلى أمان نفسي،وإلى والدين يختلفان باحترام،حتى إن افترقا.

نختم ونقول:
قبل أن تُقال الكلمة التي تَهدم أسر وتحفر ألم
تستحق اللحظة وقفة قبل أن تُقال كلمة «طالق»،
من المهم أن نسأل:
هل استُنفدت محاولات الإصلاح؟
هل القرار نابع من وعي أم غضب؟
وهل فُكّر في الأطفال قبل النطق بالكلمة؟

فكثرة الطلاق اليوم لا تعني تحررًا مطلقًا،ولا انهيارًا كاملًا،بل تعكس أزمة وعي في إدارة العلاقات.
الزواج مسؤولية،والطلاق قرار مصيري،
وبين الحرية والتدمير تقف شعرة دقيقة
اسمها النضج.


قناة شبكة الاعلام السعودي

تابعنا على الفيس بوك

© 2016-2025 All Rights Reserved صحيفة شبكة الاعلام السعودي Design and hostinginc Digital Creativity

This site is protected by wp-copyrightpro.com