إن ما يشهده العالم من إنتشار لوباء فيروس كورونا المستجد Covid-19 والتدابير المتخذه في مواجهة أزمته من قطاع الموارد البشرية في العالم أجمع ، يجعل منه التحدي الأصعب، الأخطر، الأكبر والأكثر شمولية منذ نشأة قطاعات الموارد البشرية وتطورها خلال ما يقارب العقد من الزمن.
لقد عانى مفهوم إدارة القوى العاملة أولى هزاته بعد الحرب العالمية الأولى خلال أزمة الكساد الكبير عام 1929م والذي أستمر عشر سنوات تقريباً، وأسفر عن خسارة هائلة في الدخل ومعدلات بطالة قياسية بلغت نسبة 25% في الولايات المتحدة الأميركية
ونقص حاد في الإنتاج، بخاصة في الدول الصناعية، أما المفهوم الحديث لقطاع الموارد البشرية، فقد تعرض بدوره لأزمات كبيرة كأزمة أسعار النفط عام 1973م التي أدت إلى حدوث تضخم مرتفع نتيجة الإرتفاع الحاد في أسعار الطاقة، وركود إقتصادي عالمي، وصولاً إلى الأزمة الآسيوية عام 1997م والأزمة الإقتصادية “العقارية” سنة 2007م
إن هذه الأزمات جميعاً فرضت تدخلات كبيرة من مسؤولي الموارد البشرية وقتها في مختلف الدول وإن لم تكن متشابهة، ولكن ما يميز أزمة كورونا اليوم، أنها تأتي لتوحّد ملايين الأختصاصيين حول العالم لحل أزمات متشابهة للعاملين لديها ولفرض أسس جديدة للعمل بعد أزمة كورونا.
لم تكن مقولة “ان العالم كله أصبح في زمن العولمة قرية واحدة” معبّرة مثل أيامنا هذه، فقد أنتشر فايروس كورونا من موقع واحد وشمل الأرض كلها في وقت قياسي، كأنه قطع طريقاً في هذه القرية الصغيرة وليس هذا فحسب، بل أصبح للارض
كلها هدف واحد وهو القضاء على الفايروس، وأصبحت الدول كلها تحت مجهر تقييم الكفاءة، فهذه دولة نجحت في إحتواء المرض وتلك فشلت مسجلة أرتفاعاً حاداً في الوفيات كما نرى السباق الى إستقطاب الأطباء الاكفاء إضافة الى مختلف العاملين في المجال الطبي وكأنك تطبق درساً من دروس فظاعات الموارد البشرية على الأرض كلها.
ورغم إختلاف الثقافات والمفاهيم والسياسات والإجراءات، فإن قطاعات الموارد البشرية أعتمدت أساليب متشابهة نوعاً ما لمواجهة الأزمة، مثل العمل عن بُعد (من المنزل)، تخفيض ساعات العمل، تغيير شروط العمل، الإجتماعات الإفتراضية عبر تقنيات الويب … إعتماد أساليب مغايرة لإدارة القوى العاملة مما يضمن شروطاً ناجحة في الحفاظ على القوى العاملة المنتجة في هذه الفترة العصيبة.
وهنا يبرز دور المديرين والمسؤولين في مختلف أنواع إدارات الموارد البشرية في إتباع نهج جديد يتماشى مع متطلبات الأزمة الحالية وذلك من خلال خمسة محاور :
أولاً : على مدير الموارد البشرية، لكونه شريكاً إستراتيجياً في العمل، أن ينكب على دراسة تحليلية عميقة للواقع الحالي وتقييم جدي لآثار الأزمة على الشركة أو المؤسسة، تقديم المشورة للإدارة العامة، وعرض خطة عمل تكون واضحة ومتكاملة، كل هذا بالشركة مع جميع المديرين وأصحاب القرار ومن خلال تخطيط فاعل وتنفيذ مُحكم.
ثانياً : أن التواصل الدائم مع جميع العاملين هو أكثر من ضروري في هذه المرحلة الدقيقة، والتواصل يفرض الحضور والتخاطب شخصياً مع الجميع، فعلى مدير الموارد البشرية ان يكون مستمعاً، متعاطفاً، صريحاً وشفافاً في العمل، وعليه أن يفسّر خطوات الإدارة لجميع العاملين، عارضاً الصورة الصحيحة للوضع الراهن، مظهراً الحقائق ومطلِعاً على أي جديد، مقدماً الادلة العلمية والبراهين ومتسلحاً بالأرقام والوقائع.
ثالثاً : السهر على إتباع إجراءات وقائية تعزز بيئة سليمة في العمل من جهة وصحة نفسية لجميع العاملين من جهة أخرى، فهذه الخطوات هي ضمانة إستمرار الإنتاجية عند العاملين وإلهاماً لأداءٍ مرتفع حتى في وقت الأزمات، يجب أن تبقى سعادة العاملين ورفاهيتهم وتحفيزهم من أولويات الإدارة وذلك من خلال العمل بطرق مختلفة على مسارهم المهني، تقدير عملهم، مكافأتهم، إشراكهم في العمل الإجتماعي، الإهتمام بأحوالهم المالية وصحتهم البدنية.
رابعاً : تدريب العاملين على ما فرضته الأزمة من تغييرات جذرية في أحوال العمل فالتدريب يجعل العامل أكثر تحضيراً ويرفع مستوى المسؤولية لديه في مواجهة المخاطر والتدريب المستمر على الحماية الشخصية (والإجتماعية) يدرأ عنه الإصابة بأي عدوى تجعله بعيداً عن مكان عمله أو نقلها عبره لمكان سكنه وأفراد عائلته.
خامساً : رغم قساوة الأزمة وأرتفاع نسبة الوفيات والخسائر ألتي تكبدتها سائر القطاعات الإقتصادية وبخاصة القطاعات الخدماتية، على مدير الموارد البشرية أن يكون إيجابياً فكلما كانت أفكارنا ومشاعرنا إيجابية، كانت لدينا فرص لخلق تجارب أكثر إيجابية في حياتنا والإيجابية لدى مديري القوى العاملة تنعكس بشكل كبير عمودياً وافقياً على سائر المسؤولين والعاملين.
إن توفير بيئة إيجابية في مكان العمل يساهم في بناء علاقاتٍ أفضل وتشجيع الإبداع وتعزيز الإنتاجية والايجابية تدعو الى تشجيع الآخرين وتقديرهم وطمأنته ، فالكلمات لها وقعٌ كبير بخاصة إذا كانت صادرة من قائد لفريقه في العمل وعلى المسؤولين تشجيع زملائهم بإخبارهم أنهم يؤمنون بهم وبقدراتهم حتى قبل أن تبدأ.
ثمّة مساران يستطيع أي انسان إتخاذ أحدهما في وقت الشدة : إما الخوف والخضوع، أو الصمود
والمواجهة ومن أختار المواجهة عليه الإنخراط في العمل بمهنية عالية لأن المسؤولية كبيرة ضمن أزمة غير إعتيادية، وما هو غير إعتيادي يتطلب تعديلاً في طريقة العمل بما يتلاءم مع الواقع المفروض.
عاجلاً أم آجلاً سوف يتغلب الإنسان على هذا الوباء القاتل وتنتصر البشرية جمعاء، وتعود الحياة الى الأرض كلها كما كانت، وسوف تخرج شركات ومؤسسات من هذه الأزمة خاسرة وهناك من سيخرج منتصراً، محافظاً على القوى العاملة لديه، رافعاً فيها أداءها وكفايتها، معلماً إياها سُبلاً جديدة في مواجهة المخاطر، كاشفاً فيها قدرتها الإبداعية للتغلب على ما هو غير مألوف، مُرسياً أساليب قيادية أكثر فاعلية ومساهماً معها في تحسين النظام الصحي، المحلي والعالمي، فالفردية لا تنتصر، إنما العمل الجماعي يبقى السبيل الوحيد حيث تتضافر جميع الجهود لتخطي الأزمة والوقت وقت العمل والكلُ يهُم❗️
الأستاذ عبدالقادر مكي
مستشار في الموارد البشرية والتنمية الإجتماعية
This site is protected by wp-copyrightpro.com