وفى قريتنا العامرة بإذنه تعالى- 145
27 يناير 2021
0
49005

 

١٤٥-وفى قريتنا العامرة بإذنه تعالى رأيت من طقوس الطفولة ما أصبح نسياً منسياً،وما يتصوره أهل الزمان لا يصح أن يكون مأتياً،وللطفولة كثير من الطقوس والشارات والأحوال التى يفعلها الطفل وأهله وأحبابه ،وحصر تلك الطقوس فى منشور أمر يتعذر وقوعه ،وقليل من الكتب التى تهتم بدراسة الطفولة وسيكولوجية الطفل ،إلا ما يكون من كليات رياض الأطفال بمسمياتها المختلفة ،وهو لون من الدراسات حديث ،أما تراث الثقافة العالمية القديم ففيه نُدرة ظاهرة وبادية فى الدراسات المتعلقة بالطفولة ،ومن عامين تقريباً وقعت علّى أو وقعت أنا على دراسة علمية أجنبية مترجمة وماتعة عن تاريخ الطفولة لمؤلفه بيتر استرينز ،ونعود لما أردناه من طقوس الطفولة ومعانيها وصفائها وتميزها ،فاللهو واللعب من المكونات الرئيسة فى شخصيته ،وحتى الصحابة رضى الله عنهم كانوا يصنعون لأولادهم اللعبة من العهن يتلهى بها ،والأسياف الخشبية للغرض ذاته مضافاً إليه التمرين على الفروسية والأعمال القتالية بوسائل تناسب سنه ولا تؤدى إلى خطورة متوقعة عليه،فلينظر إلى هذا من ضيقوا المباح وأحالوا حياة الناس إلى مجموعة من الحواجز والمطبات الصناعية التى لا تتفق مع شرع ولا منطق سليم ولا عرف مستقيم ،ومن أهم مظاهر الطفولة وطقوسها أن الطفل يحول كل شيئ إلى مادة مطربة ،وحتى إذا وقع له ما يحمله على البكاء فأضحكته ضحك ،وعاد من فوره إلى طبيعته الأولى التى تخلو من الغل وطى الشر فى النفس ،وانظر إلى خلاف الأطفال مع بعضهم فتراهم إذا اختلفوا توافقوا سريعاً ،لماذا ؟لأنهم مع الطبيعة والفطرة على وفاق ،وليسوا مثلنا نحن الكبار يغذونا الشيطان بوساوسه وتستجيب لها نفوسنا سراعاً ،ونبالغ فى تبرير ذلك وإلباسه أثواب المنطق حتى نبدو أصحاب رأى مسموع فيما نأتى ،ولئلا يعتب علينا عاتب فى هذا المسلك ،
سأخبرك بواحدة من الآلام التى تمر بالطفولة ،وسترى كيف حول الأطفال هذا الألم إلى كورال غنائى باسم يستحثك على الطرب ويدعوك إليه بكل الوسائل ،
سترى الطفل فى سن معينة تسقط أسنانه التى نسميها (اللبنية )،ومن سقوط السن بعد السن ،ومع سيلان الدم من فمه المرة بعد المرة ،وهو باعث قوى على الخوف لدى الطفل ،وبخاصة فى المرات الأولى ،غير أنك واجده يمسك سنه ويغنى له وهو يرميه كما أوحى إليه فى عين الشمس هازجاً بقوله (يا شمس الشموسة خدى سنة الحمار وهاتى سنة العروسة )
والأغنية البسيطة هذه إنما يقع فى روعه من وحيها أن السنة المقلوعة والملقاة فى عين الشمس سيستقبل عما قريب خيراً منها ،من جهة الزينة فهى فى ثقافته (سنة عروسة ،)ففيها من الجمال والقوة والنضارة وتوقع طول الأمد ما يتوقع فى العروسة ،
وبهذا لا بشيئ آخر أحب الطفل استبدال سن بسن بالرغم من الألم ومن سيلان الدم ،
وغنى لذلك وطرب وأطرب وقد يشاركه أقرانه وأهله فى هذا الطرب .
ومما يلقى فى خياله البرئ أن الشمس هى من تلتقط هذه السن المطروحة فى عينها ،ومن الغريب أن هذه السن إذا كانت بين يديه وسقطت على الأرض فلن يراها ويستدل على مكانها ،مهما أوتى من حذق وحرص .
ويمشى الطفل بغير هذه السن وبغير غيرها فإذا فتح فمه بدا عليه القبح أو شيئ منه ،وظهر فيه النقص ،ويتندر عليه محبوه بسؤاله عمن أكلها من القطط ،ولا يملك إلا أن يبسم ،فتكون تلك البسمة الآسرة والطاهرة أصفى وألذ من العسل المصفى .
غير أن هذا التغيير فى الأسنان يأتى متدرجاً كما جاءت الأسنان أول مرة ،ففى بدايات حياته يكون فمه خالياً منها ،وبعد أشهر معدودات من حياته تبدأ أسنانه فى الظهور،ويصاحب ظهورها بعض التغيرات ،مثل سخونة تدركه ،أو إسهال يباغته ،مع ميل منه نحو العض ،وعن غير إرادة يعض بأسنانه الصغيرة هذه أى يد تمتد إلى فمه ،فهو منها فى ألم نسميه نحن (غيران )،وأشد الناس تضرراً من عضه من تلقمه ثديها من أم حقيقية أو أم مرضع ،غير أنها مهما تألمت فهى له محبة وعليه حانية ،ومن شدة تأثر الناس بهذه الأسنان ترى الجميع فى حالة مراقبة لها ولإنباتها الواحدة بعد الواحدة ،حتى إذا انشقت لثته عن واحدة تبعتها الثانية والثالثة والرابعة وهلم جراً.
ولم يفت أهل الفن أن يوثقوا هذه الواقعة فى حياة الطفل الناشئ ،فرأينا أحد أكابرهم فى خلقه وإمتاعه ومهنيته المتفردة وهو يغنى هذه الأغانى الطفولية البرئية وقد بلغ المشيب ،لكن روحه روح طفل فهو بابا عبده فى مسلسل تليفزيونى شهير ،وهو جدو عبده فى فوازير رمضانية متفردة ،وهوالموجوع المفجوع (فى أبنائى الأعزاء شكراً )،وهو الوديع الحانى فى أغنيته (توت توت قطر ظنغطوط بالليل بيفوت )،وهو عبدالمنعم مدبولي فى كل أعماله الهادفة،
وهو العجوز فى هيئته والطفل البرئ فى مشيته ،وهو يتراقص على المسرح مع بنات فى هيئة فراشات الربيع بأثواب صيفية وردية يغنين فيها معه بلثغته المصطنعة ،(والشمش البرتقانى عليها ليا شِنة).
مصر – بقلم الدكتور / عبد الرحمن نصار أستاذ التفسير ووكيل مدرية أوقاف الإسكندرية


قناة شبكة الاعلام السعودي

تابعنا على الفيس بوك

© 2016-2024 All Rights Reserved صحيفة شبكة الاعلام السعودي Design and hostinginc Digital Creativity

This site is protected by wp-copyrightpro.com