المعطف الأحمر
16 أكتوبر 2016
0
70785

 

أرتدت معطفها الأحمرصديقها منذ أمد وغادرت منزلها متجهة إلى ميدان البيكاديلي كعادتها كل صباح تسيرفي الجو اللندني الملبد بالغيوم ,ولسعات البرد الخاطفة التي تسري في جسدها النحيل تدعوها بحنان إلى تزريرمعطفها  . هذه مناطقها المفضلة المليئة بالمسارح والعروض والمقاهي التي أدمنتها , تجلس على إحداهم تراقب تمازج الأعراق بين أبيض وأسود وقمحي ….خليط القارات والأقاليم …

وجوه تعتريها شحنات عابسة وأخرى ضاحكة مستبشرة ….

عبق المدينة الإنجليزية بمبانيها الضخمة والعتيقة, ماض يهمس وحاضر ممشوق القامة ,يتخلله زيارة فصول السنة الأربعة.

كان وقع خطواتها الرتيبة بحذائها كدق الطبول وسط ضوضاء صاخبة, فالحلم أزعجها مرة أخرى يتكرركثيرا ثم يختفي فتنسى مرارته ثم يظهر من جديد بنفس التفاصيل , ترى نفسها تسقط من الهاوية…. وتستيقظ مذعورة وتتعايش مع الخوف من أثر السقوط فتنفث شمالا وتستعيذ من الشيطان الرجيم .

ماذا يريد الحلم منها ؟

أيطلب سرد المشاعر الموؤدة, ام الدموع المختنقة …. خروجها من موطنها بعدما هتكت الحروب ردائه فأستوطنت لقلبها بلدا أخر تحاول بكل طهر نسيان قذائف العدو, فعاشت واقعها بكل براجماتية تحتبس الأهات قهرا وقيظا حينما تشتد لوعة الفراق ووطأة الوحدة ناهيك عن الشعور بالخواء فتأقلمت على التفاعل مع هذه القيود بالترجل على هايد بارك أو شارع أكسفورد المزدحم فتضل الأفكار طريقها عنوة ……..فيهدأ التفكير.

أمتهنت مع الوقت عادة الذهاب للمقاهي ترتشف القهوة وتتابع بنظرها وسمعها الناس من حولها … تتابع قصصهم وإيقاعهم السريع, ويتكرررؤية البعض منهم يوميا ليشغلوا الزوايا ذاتها, مما ولد بينهم مشاعر الألفة يتبادلونها مع تساؤلات لا إجابة لها سوى بريق العيون او إبتسامة لاهثة للحديث.

والبحث عن العمل كالتنقيب عن منجم الذهب في صحراء سيناء ……..فلا أخضرا ولا يابسا … وإنما رماد باح بقيظه.

وحينما يدب الليل بسكونه ووحشته تسلي نفسها ببرامج التلفاز ثم تغلقه بعد يأس من مشاهدة الأفلام بغير لغتها الأم , تفتقد الطرب العربي الأصيل وصوت فيروز وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ تشتاق إلى المسرحيات الفكاهية العربية والمسلسلات ..

مؤهلاتها العلمية لا بأس بها ولكن إرتداء الحجاب يشكل عائقا بينها وبين المنافسين للحصول على الوظائف .ولكن ثقتها وإيمانها بربها كان قويا وكان عزمها المستمر يدك الأرض دكا .

لم يتبقى الكثير من مدخراتها التي جمعتها على مدار السنين, والقضية التي أقامتها ضد صديق والدها ( كما يدعي هو الصداقة) في موطنها, لم تنتهي بعد ولا خطوط أمل منها, أنتشل الرجل الأرض التي أشتراها والدها رحمه الله منه قبيل وفاته و أبلغهم بعدم وجود إثبات لذلك كما تزعم هيا بها …… مضت 5 سنين ولم ينتهي المد والجزر بينهم…!!!

وفي صباح يوم أخر, كعادتها الصباحية كانت تسير إلى حيث تأخذها أقدامها, بدأ دبيب المطر خفيفا وأعقبه صاخبا شديدا … فأحتمت سريعا تحت مظلة احدى المحلات التي تبيع الكعك.. وبالرغم من وجود مظلتها الإ أن غزارة المطر اضطرتها للمكوث في ذلك المرفأ الأمن ….وعلى بعد مترين فقط شاهدت إمرأة عجوز سبعينية معكوفة الظهر رثة الثياب تحتمي بقماش ظنا أنه يقيها من المطر وتبحث بوهن داخل صندوق القمامة عن ماتقتات منه,فهي من المشردين الذين يتكاثرون كل يوم في أرجاء البلاد لامأوى لهم ولاسكن ولاعمل ….

فبحثت في حقيبة يدها على أي مبلغ ودون أن تنظر إلى كمه أسرعت الى العجوز ووضعته في يدها وتابعت سيرها ولم تتمهل لتتلقى شكروعرفان السيدة العجوز,فمن طباع بعض البشر خاصة السمائيون أنهم لايحسنون تقبل الشكر ممن أحسنوا إليه, فشفافيتهم تؤلمهم فهم يعلمون أن اليد العليا خير من اليد السفلى ……

واصلت سيرها حتى أقتربت من مقهاها المفضل وطلبت شاهي بالحليب الساخن مع بعض البسكويت الإنجليزي الفاخر وتبادلت الحديث مع الجرسون ثم بدأت تمارس لهوها المفضل بمتابعة المارة والضيوف وأهل المنطقة ….. وفجأة لاحت لها صورة العائلة الصديقة والمجاورة لمنزلها …. فهي الأخرى سيدة دمثة الأخلاق تعيل زوجها الكفيف و أربعة من الأطفال في مختلف المراحل … تذكرت أنها كانت تشكو قلة الحال والموارد وأن صاحب المنزل سبق أن هددها بالطرد إن لم تدفع الإيجار المستحق خلال اسابيع ,والمنزل الذي نتحدث عنه هو ( غرفة صغيرة بحمام) في حي شعبي بسيط .. وسط غلاء ضواحي لندن الفاحش . وبكبرياء أنثى مغتربة تحنو على من تشابهت ظروفهم قررت أن تهبها مدخراتها بعد أن أبقت الميسور منه ومايكفيها بالكاد والكد الى نهاية الشهر الحالي …. لأن الوسطية فضيلة فكرة وخلقا ولأن ( وسط الشي خيره وأعدله) ولأن الإنسان طبعه الخير مالم تغيره أهوال الحياة وبهرجتها ….

وتم لها مأرادت …. وقضت السيدة في المنزل المقابل إيجار منزلها وتيسرت الأمور ….

ولأن من عجائب القدر وحسن العبرومفأجات الحياة …. أنها قد تهبك حقا لم تستطيع أخذه بالقوة  ….

بعد مرور أيام ليست بكثيرة تواصل معها صديق والدها المزعوم, يخبرها بأنه أمضى عشرون يوما في محاولات للوصول إليها فلم يستطع إلا ايجاد رقمها وأنه أخيرا وجد ورقة المبايعة بينه وبين والدها … وقد مرض هذا الرجل بمرض شديد ولايوجد لدائه دواء لذلك طلب منها الإسراع وإرسال معلوماتها البنكية حتى يتسنى له تحويل المبالغ المستحقة لها قبل أي عوارض صحية قد تنهي حياته مثلما أخبره الأطباء…….

عشرون يوما !!!!!! أليست هذه نفس المدة الزمنية التي تبرعت فيها بمالها وأخر مدخراتها … تسال به رضا الله والتيسير على من تعسرت أموره !!!!

          فرددت :

وليس لنفوس أطربتها حب                  المغاني ومتاع الدنيا شاغلها

هاد إلى السبيل سوى رب                   فكن ويكون بأمره الأعاجيب

وأي سعادة لازمت صديقتنا منذ ذلك الحين … وبتوفيقه تبنت مشروعا بسيطا كبر ونضج مع صبرها وحبها …

بقلم : نادية بخش 


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة شبكة الاعلام السعودي

تابعنا على الفيس بوك

© 2016-2024 All Rights Reserved صحيفة شبكة الاعلام السعودي Design and hostinginc Digital Creativity

This site is protected by wp-copyrightpro.com