فى قريتنا العامرة بإذنه تعالى- 146 | د. عبد الرحمن نصار
03 فبراير 2021
0
36729

١٤٦-وفى قريتنا العامرة بإذنه تعالى رأيت المسافرين إلى العراق أفواجا وأفرادا،وغيرها من البلاد كان مقصداً كذلك للمسافرين ،لكنهم كانوا يفضلون العراق ،إذ لا يلزمهم عقد للسفر إليها ولا يلزمهم كفيل ،والفرار من اشتراط العقد بسبب كلفته المادية كان المرجح الأول لوجهة السفر ،فالمسافر غالباً فقير لا يملك ثمن العقد ،وساذج لا يعرف حيل شركات السفر ،ومظاهر التفافها على راغبى السفر ،وهى شركات عادة ما يلعب وكلاؤها على طمع المسافر ورغبته فى الثراء أو على الأقل تغيير وضعه المادى إلى ما يظنه خيراً ،ولهذا وقع كثير من الناس فى حبائل الشركات ووكلائها،وفى ذاكرة الناس كثير من الوقائع الجماعية والمنفردة التى تقرر هذا الواقع وتؤكد وجوده ،لكن بدرجات متفاوتة من قرية لقرية ومن بلدة لبلدة ،وقد فضل المسافرون فى نهاية السبيعنات وحقبة الثمانينيات العراق كما قلنا فراراً من تكاليف التعاقد ،فضلاً عن سهولة الحصول على تأشيرة الدخول لكل الأعمار حتى للطلاب الذين يرغبون فى السفر خلال الأجازة الصيفية ،وفراراً كذلك من تحكمات الكفيل الذى تصل تصرفاته أحياناً إلى ما يتجاوز قسوة تجار العبيد قديماً وحديثاً.
وكم من المجازر الأخلاقية ارتكب فى حق المسافرين من الكافلين ،وعادة ما يحسن الكفيل الفرار من المساءلة القانونية ،وهو ما يغريه دوما بظلم الأجير الفقير الذى سافر يطلب مراغماً كثيراً وسعة،غير أنه يصطدم بوقائع مريرة تتحطم عليها آماله وأحلامه.
صحيح أن السفر إلى غير العراق ربما كانت عوائده المادية أكبر وأكثر ،ولكن ضريبته النفسية والصحية كانت كذلك أقسى وأفدح،ولذا آثر المسافرون العراق وقدموها على غيرها لما ذكرنا ،فضلاً عن أن قيادة العراق يومئذ كانت تحب المصرييين وتحفظ لهم حقوقهم وتعرف لهم قدرهم .
وقد ساعد الناس على السفر أنه لم تكن تشترط فى المسافرين مهارات شخصية وعملية وخبرات علمية وعملية كالتى تشترط اليوم ،ولم تكن تشترط كذلك إجراءات طبية كالتى تشترط اليوم.
وما من بيت (إلا فيما شذ وندر )إلا ومنه مسافر إلى العراق أو غيرها من وجهات السفر ،وربما مررت على قرية أو عزبة بأكملها فلا تجد فيها إلا الكهول والصبيان ومن فى بدايات الشباب مع أمهاتهم وخالاتهم وعماتهم وأخواتهم،وهو أمر على ما فيه من سعة مادية فيه كذلك من المآسى النفسية والتأثيرات السيكولوجية ما فيه.
اندفع الشباب إلى السفر بتأثير من أقرانهم وربما بحافز من حب المغامرة وإيثار السعة ،وكثرت أعداد المسافرين إلى الحد الذى أفرغ بعض البلاد من شبابها ،وإلى الحد الذى عزّ معه إحصاء الأعداد إحصاءً دقيقاً ،غير أن المصرييين وحدهم فى العراق وحدها تجاوزوا خمسة ملايين ،والأجير بطبيعته لا يرجو إلا أن يروح بطاناً،ولذا رضى المسافرون بكل الأعمال ،سواء أتقنوها أم لا ،ولم تكن تسمع من أحدهم أنه لا يحسن عمل كذا أو كذا ،بل هو فى سوق الأجراء يحسن كل الأعمال ،حتى لا يلفظه السوق وحتى لا يظل متبطلاً ،وحتى لا يكون كلاً على من سكن معهم ومن يؤاكلهم ويشاربهم.
وعودة واحد من المسافرين وقد ظهرت عليه آثار النعمة فى ملبسه وهداياه لأهله وظهرت كذلك آثارها على بناء بيته وبيت أهله،ثم ظهرت على مصاهرته وفى تدلله وتدلل أهله فى اختيار عروس له تليق كما يتصور بوضعه الإجتماعى الجديد ،أقول إن عودته مصحوبة بهذه المشاهد المرئية من الجميع كفيل بأن يكون أقوى دعاية لسفر غيره،وحتى من لم يرغب فى السفر حمله أهله عليه رغبة منهم فى مطاولة دار فلان فى النعيم الوافد عليهم ،وهو لا يقدر على مقاومة الإغراء ولا الفرار من إلحاح أهله وأقرانه طوال الوقت ،ولابد أن أحدهم سيجد وسيلة للتأثير عليه وتغيير قراره ولو بعد حين ،وعلى كثرة من سافر وعلى كثرة التحولات السيكولوجية والديموجرافية ،بخيرها وشرها والتى يصعب حصرها وجمعها ،لكن تبقى بعض الوقائع عالقة بالأذهان لا يمحوها النسيان وتتأبى على الزوال،ومن ذلك أن عدداً لا بأس به من المسافرين كانوا محل طمع من أهليهم ،فمنهم من كان يحول الأموال لأهله فى حساب أحدهم أو بتوكيل له ،فإذا به يخون الأمانة فينهب كل التحويلات يشترى بها داراً أو أرضاً أو يقيم بها تجارة ،فإذا عاد المسافر وطلبها لم يكن جزاؤه إلا كجزاء سنمار،ويصبح ويبيت لا يملك إلا أن يقلب كفيه ،وإذا فعل به بعض أهله ذلك فلم يكن مستغرباً إذن أن تفارق بعضهم مخطوبته إلى خاطب آخر لأسباب مختلفة ،فيشعر بأن الجميع قد اتفق على ذبحه وسلخه ،فتجتمع عليه المجازر العاطفية والأسرية التى لايمكنه نسيانها أو التخلص من آثارها،فيقوم حسيراً ويقعد حسيراً ويمشى حسيراً،ويقضى بقية أيامه كسيراً فاقداً للثقة فى كل شيئ.
وهذه من ضرائب السفر التى لا يحب الطرفان تذكرها ،المسافر المخدوع ممن وثق بهم ،وهو من أكثر المواقف إيلاماً وقتلاً لأن الطعنة كانت من مسافة قريبة ومن جانٍ بصير بموضع المحز ،ولا القريب الذى يسكن فى ضميره كل اللصوص ،ولا يريد تذكر أنه لص .

مصر – الدكتور عبد الرحمن نصار
أستاذ التفسير ووكيل مدرية أوقاف الإسكندرية


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة شبكة الاعلام السعودي

تابعنا على الفيس بوك

© 2016-2024 All Rights Reserved صحيفة شبكة الاعلام السعودي Design and hostinginc Digital Creativity

This site is protected by wp-copyrightpro.com